تغوص رواية "ثم ابتلعه الحوت" للكاتب الإيراني المقيم في أميركا، أمير أحمدي آريان، (ترجمة سمير محفوظ بشير، دار العربي – القاهرة)، في أعماق سجين رأي وفي نفسية سجانه، في الوقت ذاته، لتفضح قمع الحريات الممنهج في إيران تحت حكم الملالي، وتسلط الضوء - في مستوى أعمق - على تشوهات غائرة طاولت حال هذا البلد وشعوبه في السنوات التالية للثورة التي أنهت حكم الشاه في 1979، مروراً بالحرب العبثية مع العراق، ووصولاً إلى إحباط سعي الإصلاحيين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل إصرار المتشددين على المضي قدماً في امتلاك أسلحة نووية، وتصدير الثورة والهيمنة على مقدرات عدد من الدول المجاورة، حتى لو تطلب ذلك التستر على الفساد المستشري في الأوساط القريبة من دائرة صنع القرار، والتنكيل بالمعارضين بسجنهم من دون محاكمة أو حتى إغتيالهم.
حلقة قراءة
"هل أصبحتُ حقاً وحيداً؟ عشتُ نصف حياتي وحيداً. أعرف جيداً ما تعنيه العزلة. ما أنا فيه الآن ليس سوى إنكار للعزلة. إن العزلة الإجبارية التي أحياها هي ضد العزلة التي اخترتها بنفسي" صـ 72، 73. هكذا يتأمل "يونس عباس ترابي"، حاله في بداية نقله إلى السجن على خلفية شجار مع أحد الأشخاص، يتبين لا حقاً أنه ابن وزير في حكومة أحمدي نجاد. أمضى "يونس" 25 عاماً من عمره وهو يعمل سائق حافلة للنقل العام في طهران، ولكنه لم ينضم إلى نقابة سائقي الحافلات إلا في السنة الأخيرة من تلك السنوات الطويلة والتي سبقت دخوله السجن بتهمة "العمل على زعزعة استقرار البلد". كان حتى بلوغه الخامسة والأربعين من عمره يستطيب عزلته، هو العازب، وحيد والديه اللذين ماتا وهو في سن المراهقة. ثم فجأة دخل حياته زميل له في العمل ودفعه دفعاً نحو كسرها بأن أقنعه بالانضمام إلى النقابة التي يفترض أنها ترعى حقوق السائقين، ولها إطار رسمي يجعل نشاطها مشروعاً ولكن في ظل دولة بوليسية، تتجسس على خصوصيات مواطنيها وتستخدمها ضدهم عند اللزوم.
الزميل نفسه ويدعى "بهروز" أقنعه بالانضمام إلى "حلقة قراءة" تضمهما مع ثلاثة سائقين آخرين، لكنه غداة إضراب شارك فيه من دون حماسة، يُلقى القبض عليه ويُفاجأ بأن لدى الشرطة تفاصيل جلسات "حلقة القراءة"، وما دار فيها من مناقشات سياسية، نصاً وصورة، بل وكذلك رسائل هاتفية حميمة تبادلها مع زوجة "بهروز" وتكشف ارتباطهما بعلاقة جسدية قصيرة انتهت باكتشافها من قِبل الزوج المخدوع. هو أصلاً لم يهتم سوى بأن تلبي الحكومة طلبات النقابة الخاصة بتحسين ظروف عمل سائقي الحفلات، ويفكر أثناء التحقيق معه في أن "هوما" استدرجته إلى تلك العلاقة الحميمة لتنتقم من "بهروز" الذي اكتشفت أنه يخونها مع فتاة في عمر ابنته. وبالطبع هناك خائن ضمن جماعة القراءة، وإلا كيف وصلت تفاصيل جلساتها نصاً وصوراً فوتوغرافية إلى المحقق الموتور الذي يدعى "الحاج سعيد"؟
"يونس" إنسان بسيط فقدَ عزلته الاختيارية ليجد نفسه في قلب عزلة إجبارية لا تخلو من حصص التعذيب النفسي والبدني الممنهجة، لإجباره على الاعتراف كتابةً بأنه شيوعي وعميل للإستخبارات الأميركية والإسرائيلية، ويعمل بتمويل من الرئيس السابق محمد خاتمي والعناصر المؤيدة لنهجه الإصلاحي!
عندما اندلعت "الثورة الإسلامية"، كان قد مضى عام على وفاة والد "يونس"، ولحقت به أمه التي ترك رحيل زوجها أثراً سلبياً على حالتها النفسية، ومن ثم لحقت به إثر حادث سير عندما صدمتها سيارة فيما كات تعبر الشارع وهي شبه مخدَّرة بتأثير عقاقير مهدئة.
يقول "يونس": "دخلت الثورة حياتي عبر جهاز التلفزيون، لكنني حتى هذه اللحظة لم أر بعيني التغيير الذي نال المدينة" صـ81. اللحظة المقصودة كانت في بدايات العام 2004، والمدينة هي طهران. يضيف: "تضاعف بين ليلة وضحاها عدد الرجال الذين أصبحوا ملتحين والنساء اللاتي أصبحن يرتدين الشادور الأسود. في تلك الأثناء من العام 1979 تعرّف يونس مصادفة على فتاة إيرانية يهودية تدعى "سيمين"، قالت له إنها ستهاجر مع أسرتها، خوفاً من تنامي العداء لليهود وغيرهم من الأقليات الدينية. ثم التحق بمدرسة تعليم قيادة السيارات الثقيلة، ليصبح سائق حافلة. وبعد 25 عاماً من العزلة الاختيارية، يجد نفسه مدفوعاً لتوطيد علاقته بزميله "بهروز"، ليجد نفسه في غضون ستة أشهر متهماً بالتآمر على أمن البلاد، ويُقاد معصوب العينين إلى حبس انفرادي في سجن "ايفين" الرهيب في طهران. في أول جلسة تحقيق، يقول له المحقق "الحاج سعيد": "النظام ليس خائفاً منك. إنه يريد مساعدة أمثالك من أصحاب الأرواح الصافية لكي تعود إلى جادة الصواب" صـ104. لكن سرعان ما تتلاشى تلك اللهجة الودودة، ليتعرض "يونس" لضرب مبرح وحرمان من الطعام، لرفضه الإعتراف بالتهمة الموجَّهة إليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التحريض على الجمهورية
كان "يونس" قد عاد إلى قيادة الحافلة في اليوم التالي للإضراب الذي جرى فضه بعنف مفرط، لكن شاباً استفزه أثناء وقوفه في إحدى المحطات وكالَ له سباباً مقذعاً، ما جعله يفقد هدوءه وينهال عليه ضرباً، وهنا يجري القبض عليه، ليبلغه المحقق بأنه في السجن لأنه متهم بالتحريض ضد الجمهورية الإسلامية بما أنه العقل المدبر للإضراب، مذكراً إياه بأنه من عائلة تنتهج العنف السياسي منذ أيام الشاه، سواء من جهة أمه أو من جهة أبيه. في تلك الأثناء كان "يونس" الوحيد المتبقي على قيد الحياة من تلك العائلة التي لم يهتم يوماً بنشاطها السياسي، بل إنه كان يستهجنه، بما أنه قتل خاليه وعمه، وفقدان والده لعمله في أحد البنوك قبل أن يموت بحسرته، لتلحق به الأم.
من الملاحظ أن الكاتب عمد إلى تداخل الأزمنة، عبر سرد بضمير المتكلم تولاه "يونس" من بداية العمل إلى نهايته، وقد أجاد في بإيقاع حافلة تمشي كالسلحفاة في مدينة تئن تحت وطأة زحام رهيب، وتضطر للوقوف في محطات كثيرة لينزل ركاب ويصعد آخرون. وهكذا يستعيد يونس وهو في زنزانته الانفرادية ملابسات اقترابه من "بهروز" الذي بات بمثابة صديقه الوحيد، والمعارف السياسية التي زوَّدته بها جلسات القراءة، وعلاقته بـ"هوما" التي بادرت بالتقرب منه، لتتعدد لقاءاتهما الحميمة في شقته.
في الختام، وبعد عشرين يوما من التعذيب، يخضع "يونس" لطلب الاعتراف كتابة بتآمره على نظام الحكم، ويحال إلى "محكمة الثورة الإسلامية" التي تدينه خلال جلسة واحدة لم يحضرها محام، وتقرر سجنه لأربع سنوات. لكن الرواية الموزعة على 22 فصلاً، في 316 صفحة من القطع الوسط، لا تورد سوى القليل جداً من تفاصيل سنوات السجن تلك، فالتركيز كان على فترة الحبس الانفرادي التي جرى خلالها التحقيق معه وإجباره على الإعتراف بجُرم لم يرتكبه. تلك الفترة التي يتبين أنه تم خلالها كذلك حبس بقية زملاء جلسات القراءة، والحصول منهم على اعترافات مصورة يتم الاستناد إليها في تثبيت التهمة على "يونس".
يخرج "يونس" من السجن، محطماً، ويتصادف ذلك مع اندلاع تظاهرات مليونية تحتج على إعادة انتخاب نجاد رئيساً للبلاد. يجد نفسه بلا عمل وبلا أمل في أن يلتحق بعمل جديد، بعدما أنهك السجن جسده وعقله... "دمَّرت تلك الأعوام الأربعة التي قضيتها في ذلك السجن كل قدراتي على تحديد الاتجاهات. لقد قام إله نهم بقضم أربعة أعوام من حياتي، ترك لي بعدها جسداً عجوزاً منهكاً، وضغط دم مرتفعاً، وكليتين واهنتين، وصداعاً نصفياً مزمناً ونفَسَاً كريهاً".
لم يجد "يونس" وقد بات حراً، لزوماً للعودة إلى شقته، واستسلم إلى فكرة أن البناية التي تضمها ربما تكون قد أزيلت، ومن ثم يهرب من زحمة المتظاهرين، ويلجأ إلى حديقة تأوي عدداً من المشريدن، لينضم إليهم ويشاركهم تعاطي مخدر الهيروين الذي كان قد أدمنه خلال فترة السجن. فهل كان ذلك المخدر هو "الحوت" الوارد في عنوان الرواية، أم المحو والتشرد الذي لا تلوح له نهاية في أفق بلدٍ مبتلى بنظام حكم لا يقيم اعتباراً لأبسط حقوق الإنسان؟