في أواخر ستينيات القرن الماضي عاثت "إنفلونزا هونغ كونغ" فساداً في أرجاء المعمورة زهاء ثلاث سنوات، فعطلت المصانع والأسواق والمدارس وحصدت أكثر من مليون قتيل. فكيف واجهها العالم آنذاك، وما هي الدروس المستفادة؟
منتصف خريف عام 1968 تفشى وباء قاتل غير اعتيادي في الصين. بدأ الأمر برمته في مدينة ووهان، قبل أن يجتاح بسرعة أنحاء البلاد، لينتقل بعد ذلك إلى أصقاع الأرض كافة عبر الرحلات الجوية المدنية والسفن التجارية. أما الحصيلة النهائية، فكانت أكثر من مليون ضحية، أكثر من 100 ألف منهم في الولايات المتحدة بعدما جلبه الجنود الأميركيون العائدون من آسيا.
أجبر الوباء القاتل الجديد سلطات مدينة نيويورك على إعلان حال الطوارئ الصحية؛ وتسبب بالكثير من الوفيات في برلين حيث كُدِّست الجثث داخل أنفاق المترو؛ وعصف في زوايا وأروقة مستشفيات لندن؛ وأجبر نصف القوة العاملة في بعض مقاطعات فرنسا على البقاء طريحة الفراش. وحول العالم، تم وضع الأشخاص الذين أصابهم الوباء بانتكاسات رئوية حادة، على أجهزة التنفس الاصطناعي، لكن من دون جدوى.
ثلاث سنوات
استمر تفشي الوباء القاتل الجديد، الذي أُطلق عليه في ما بعد "إنفلونزا هونغ كونغ"، زهاء ثلاث سنوات، ومع ذلك يتم نسيانه وتجاهله إلى حد كبير اليوم؛ لكنه يبقى دليلاً دامغاً على قدرتنا نحن البشر على الصمود في وجه أعتى الجائحات، ودليلاً كذلك على كيفية تعامل مجتمعاتنا المختلف تماماً الآن مع أزمة كورونا المستجد على الرغم من أوجه الشبه العديدة بين الوبائين.
يصف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، جائحة "كورونا المستجد" بالتحدي الأكبر الذي تواجهه بلدانهم منذ الحرب العالمية الثانية، لا بل ذهب ماكرون إلى حد تشبيهها بأنها الحرب بعينها. لكن يحلو للعلماء وللأطباء وصف "إنفلونزا هونغ كونغ" بأنها أفضل اختبار يمكن مقارنته باجتياح كورونا المستجد. ذلك أن "إنفلونزا هونغ كونغ" حدثت في زمن قريب نسبياً من يومنا هذا، على عكس "الإنفلونزا الإسبانية" الأكثر دموية والأكثر استدعاءً في الذاكرة والتي حدثت منذ أكثر من قرن من الآن، ما يعني أن بإمكان الأولى تقديم دروس "بيضاء" ليومنا "الأسود" هذا على الرغم من أن الخبراء يختلفون حول ماهية هذه الدروس.
ضربت على موجتين
ضربت "إنفلونزا هونغ كونغ"، الناجمة عن سلالة H3N2 الفيروسية، العالم على موجتين وكانت موجتها الثانية أشد فتكاً من الأولى، ولعل في ذلك درس للقيادات السياسية اليوم. وقد تم تطوير لقاح مضاد للإنفلونزا بشكل سريع نسبياً، فقد كان الباحثون آنذاك قد استوعبوا دروس جائحتي الإنفلونزا السابقتين في القرن العشرين؛ "الإنفلونزا الإسبانية" عام 1918، و"الإنفلونزا الآسيوية" عام 1957. لكن خطوط الإنتاج آنذاك لم تستوعب الطلب الهائل على اللقاح، بالتالي لم تتم إتاحته على نطاق واسع، ما سمح للوباء بالوصول إلى ذروته القاتلة في الموجة الثانية لدى البلدان التي لم تتوصل باللقاح. ويحذر علماء الأوبئة الآن من أن هذا النمط الوبائي يمكن له أن يتكرر لدى فيروس كورونا المستجد، مع بلوغه ذروته في الموجة الثانية هذا الخريف، مع احتمال أن يكون العالم مكشوفاً دفاعياً: أي من دون لقاح.
لكن الباحثين لاحظوا، بحسب ما تقول صحيفة "وول ستريت جورنال"، أن ثمة اختلافاً جوهرياً بين ما يجري اليوم وما حدث منذ خمسين عاماً؛ فقد استجابت الحكومات والمجتمعات بشكل مختلف تماماً عما كانت عليه الحال في أواخر ستينيات القرن الماضي. ففي عام 1969 عانت خدمات البريد والقطارات البريطانية والمصانع الفرنسية، اضطرابات إنتاجية كبيرة جراء تغيب العمال والموظفين بسبب الإصابة بالإنفلونزا. وفي ألمانيا الغربية (إذ كانت ألمانيا وقتذاك لا تزال مقسمة إلى شطرين، شرقي وغربي)، كُلِّف جامعو القمامة دفن ضحايا الإنفلونزا بسبب نقص متعهدي الدفن. وفي بلدان أخرى متضررة، اضطرت بعض المدارس إلى تعليق الدراسة بسبب مرض المعلمين. وخلال أقل من عامين، قضى أكثر من 30 ألف شخص في فرنسا وبريطانيا، وما يصل إلى 60 ألفاً في شطري ألمانيا المقسمة، وفق تقديرات حديثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سُمح للإنفلونزا بالانتشار
ويقول الأطباء إن "إنفلونزا هونغ كونغ"، التي سُميت كذلك جراء اكتشاف أولى حالات الإنفلونزا في هذه المستعمرة البريطانية السابقة، كانت أقل فتكاً من فيروس كورونا المستجد. لكن يبدو أنها انتشرت بالطريقة نفسها تقريباً. المثير أن الحكومات ووسائل الإعلام لم تطالب آنذاك بفرض قيود على الحياة الاجتماعية العامة أو النشاط الاقتصادي أو التجاري كما يحدث اليوم، بل سُمح للمرض بالانتشار من دون عوائق تقريباً إلى أن أصبح اللقاح المضاد له متاحاً بعد زهاء أربعة أشهر من ظهوره.
ويتناقض هذا التصرف بشكل كلي مع ما نسمعه ونراه من ردود فعل رسمية اليوم، والتي تركز إلى حد كبير على فرض درجات كبيرة من الاضطراب الاقتصادي والتباعد الاجتماعي لإبطاء وتيرة انتشار فيروس كورونا والسماح للسلطات الطبية بالتركيز على عزل الأشخاص الأكثر ضعفاً وحماية حياة الأفراد. كما جعلت الإجراءات التقييدية الصارمة والتغطية الإعلامية المباشرة واللصيقة للأحداث، من الفيروس التاجي الجديد نجماً مركزياً في حياة معظم الناس. خلال الأعوام الممتدة بين 1968 و1970، أظهرت وسائل الإعلام اهتماماً سريعاً وواسعاً بالإنفلونزا على الرغم من تخصيص مساحات إعلامية كبيرة لأحداث أخرى مثل؛ الهبوط على القمر وحرب فيتنام والصعود الثقافي لحركات الحقوق المدنية والاحتجاجات الطلابية والثورة الجنسية.
يقول بيير ديلامونيكا، وهو طبيب فرنسي بدأ مسيرته الطبية عام 1969 غداة تفشي الوباء، إن المتوفين جراء الإنفلونزا كانوا يتراكمون في مستشفاه جنوب فرنسا. لكنه قال إن الأطباء والجمهور كانوا قليلي الحيلة أمام عدد الضحايا الكبير. وتقول سوزان كرادوك، الأستاذة بمعهد الدراسات العالمية بجامعة مينيسوتا، إن معدلات وفيات الإنفلونزا عام 1968 كانت أقل بكثير من نظيرتها لدى كورونا المستجد. وتضيف أن رجال السياسة وأصحاب القرار آنذاك كانوا واقعين تحت ضغوط أقل ويتصرفون بأريحية كبيرة مقارنة مع نظرائهم اليوم، إذ لم تكن ثمة تغطية إخبارية على مدار 24 ساعة ولا دفق للمعلومات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وما يرافقها من ازدياد لحال القلق العام.
الفئات الأكثر ضعفاً
ويقول مالتي تايسين، وهو مؤرخ ألماني متخصص في الأوبئة، إن الحكومة الألمانية قللت من خطورة فتك "إنفلونزا هونغ كونغ"، ورحبت بما قيل وقتها بأنها تستهدف على ما يبدو المسنين والشباب فقط.
يتابع تايسين: "اليوم، أدى التقدم الطبي إلى رفع متوسط العمر المتوقع، وإلى زيادة إحساس الناس بالأمان. لكنه قلل بالمقابل من تسليم الجمهور بحتمية المرض والوفاة، خصوصاً بين الفئات الأكثر ضعفاً".
في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كانت مذبحة الحرب العالمية الثانية لا تزال حية في الذاكرة، وكان متوسط العمر المتوقع أقل بكثير مما هو عليه اليوم، وكانت أمراض مثل شلل الأطفال والخناق والحصبة أو السل جزءاً من الحياة اليومية.
يرى العديد من الأطباء وعلماء الأوبئة أن مقاربة الطب اليوم، بتركيزه على إنقاذ الأرواح وحماية الأشخاص الأكثر ضعفاً، هي مقاربة متقدمة. لكن البعض يقول إنها تأتي بتكلفة عالية، ويدعون إلى مقاربة أكثر توازناً. يقول يوهان جيسيكي، اختصاصي الأوبئة المخضرم الذي يقدم المشورة لسلطات الرعاية الصحية السويدية، إن عمليات الإغلاق اليوم ستؤدي إلى نتائج عكسية لأن معدلات الوفيات سترتفع مرة أخرى بمجرد رفع الإغلاق، ما سيؤدي إلى دائرة مغلقة من عمليات الإغلاق. اتبعت السويد نهجاً أقرب إلى ذلك الذي استخدم خلال "إنفلونزا هونغ كونغ"، إذ لم تأمر السلطات السويدية المتاجر أو المطاعم أو المكاتب بالإغلاق، ما سمح بانتشار الفيروس بين السكان. اليوم، تمتلك السويد واحداً من أعلى معدلات وفيات كورونا المستجد في منطقتها نسبة الى عدد السكان.
البروفيسور يانير بار يام، الفيزيائي المقيم في نيويورك والذي تنبأ بحدوث جائحة فيروس كورونا المستجد بعد تفشي المرض في الصين، يعارض الفكرة السابقة. إذ يقول بار يام إن تطوير لقاح سيستغرق شهوراً لذا فإن الحد من عدد القتلى ليس فقط ضرورة إنسانية، ولكنه يمنع في نهاية المطاف المزيد من الضرر الاقتصادي.
ووفق "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" الأميركية، حصدت جائحة عام 1968 زهاء مليون شخص. يقول بار يام، كان ينبغي أن تكون "إنفلونزا هونغ كونغ" بمثابة تحذير لحكومات اليوم لتكون مستعدة بشكل أفضل، وجاهزة للعمل بشكل أسرع، بدلاً من ذلك، فإن الإيمان الساذج بقدرة التقدم التكنولوجي على حسم أي مشكلة قد تطرأ، ترك أزمة عام 1968 تتلاشى من الذاكرة. وتقول لورا سبيني، مؤلفة كتاب "راكب شاحب" عن الإنفلونزا الإسبانية، إن "الموت الأسود" أو الطاعون الدملي الذي دمر سكان أوروبا خلال العصور الوسطى، يحتل مكانة أعلى في ذاكرة الثقافة الغربية من الأوبئة القاتلة الأخيرة. تضيف سبيني أن هذا الأمر إشكالي، لأنك "إذا لم تتذكر الماضي، فلا يمكنك الاستعداد للمستقبل".