هل صار الماضي هو الزمن الجميل؟ قمة البؤس في لبنان أن يبدو أكثر البرامج الانتخابية واقعية هو برنامج من سطر واحد طرحه مرشح شمالي ظريف: أعدكم بإعادة المدينة 50 عاماً إلى الوراء. ولا شيء يزيد كوارث الأزمات المتراكمة فوقنا أكثر من مفاخرة المسؤولين بعد أية خطوة بسيطة في الأيام العادية بأننا في "يوم تاريخي". وما أكثر الأيام التاريخية التي سمعنا بها في الفترة الأخيرة في بلد يكاد يخرج من التاريخ ويعاني لعنة الجغرافيا ويدمر الجشع فيه طبيعته الجميلة.
آخر هذه الأيام "التاريخية" يوم موافقة مجلس الوزراء على خطة إصلاحية سبقتها قبل عامين خطة ذهبنا بها إلى مؤتمر "سيدر" في باريس، وخطة قبل عام كلّفنا شركة "ماكنزي" إعدادها لقاء مليون دولار، وورقة إصلاحية أقرها مجلس الوزراء أيام الحكومة السابقة بعد وقوع الثورة الشعبية السلمية في الخريف الماضي. وهي جميعاً بقيت حبراً على ورق في الأرشيف من دون تنفيذ، لأنها مضرة بمصالح التركيبة السياسية، وإن كانت مفيدة وضرورية للبلد. لا بل إن عدم تنفيذ ما التزمناه في مؤتمر "سيدر" أبقى الاستثمارات والمبالغ المرصودة لها بـ11 مليار دولار معلّقة في الهواء، إن لم يذهب بها كورونا وما فعله باقتصاد الدول والمنظمات المانحة. فهل تكون الخطة الأخيرة استثناء من القاعدة أم تعود حليمة إلى عادتها القديمة؟
صوت "حزب الله" الرافض
خياراتنا محدودة ومحددة بعدما صرنا في هاوية أزمات عميقة. والخطة هي مجموعة عناوين أكثر مما هي خطة بـ"الماكرو والمايكرو اقتصادي" معاً. المؤكد فيها هو جرأة الاعتراف للمرة الأولى بأرقام الخسائر في حسابات الخزينة ومصرف لبنان المركزي والمصارف، جراء الاقتراض من أموال المودعين للإنفاق بلا ضوابط، والهدر والفساد والسطو على المال العام، والمقدرة بـ160 مليار دولار. والأمل هو ألا يكون أهم ما فيها ما تحوط الشكوك في القدرة على تنفيذه وحتى برغبة النافذين في التنفيذ خوفاً على مصالحهم. لكن المرحلة الحالية واضحة. فلا مجال للخطأ في قراءة ما يعنيه تأكيد مجلس الوزراء "أن النص المعتمد هو النص المعد بالإنجليزية". وليس بين السطور بل في سطور ما أدلى به رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب، اعتراف بأن الوظيفة العاجلة للخطة هي تحقيق أمرين ملحين: أولهما وضع ورقة في يد المستشار الاقتصادي المتعاقد معه "لازار" للتفاوض مع الدائنين حاملي سندات "اليورو بوند". وثانيهما التفاوض مع صندوق النقد الدولي على أساس خطة جاهزة للحصول على مساعدات، حيث الحاجة إلى عشرة مليارات دولار على سنوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصح النوم. فعلى مدى شهور، وأصوات الخبراء الاقتصاديين في الداخل والمسؤولين في عواصم المنطقة والعالم ترتفع، داعية إلى التوجه نحو صندوق النقد الدولي بصفته مفتاح كل المساعدات. لكن صوت "حزب الله" الرافض للتفاوض مع الصندوق كان الأقوى تأثيراً في الحكومة. والحجة هي أن صندوق النقد أداة "إمبريالية" في يد أميركا والغرب، وأن وصفاته معروفة وخطيرة على البلدان الفقيرة. فضلاً عن التخوف من السيطرة على "سيادة لبنان". ومع صوت "حزب الله" كانت هناك أيضاً أصوات نافذين من أمراء الطوائف خائفين من رقابة الصندوق وكشف ما قام به هؤلاء من أعمال مخالفة للقوانين. ومن المفارقات أن الحزب الذي يرفع شعار الخوف على السيادة، هو في نظر مجلس الأمن ونصف اللبنانيين من يمنع الدولة من "فرض سيادتها الكاملة"، فضلاً عن أنه يمسك بقرار الحرب والسلم ويلعب دور قوة إقليمية تشارك في حرب سوريا، وتتدخل في العراق واليمن وتقوم بمهامها في عواصم عدة بالوكالة عن إيران. لكن الضرورات تبيح المحظورات، وخصوصاً بعدما طلبت إيران خمسة مليارات من الصندوق.
شروط تقنية لا سياسية
ولا بأس، أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً، كما يقول المثل. لكن صندوق النقد ليس مؤسسة "كاريتاس" الخيرية. فلديه شروط تقنية، لا سياسية. وهو حريص على التأكد أولاً من أنه يفاوض على خطة بدأ تنفيذ بعضها على الأرض، بما يوحي بالثقة. وهو يريد ضمان القدرة على استعادة القروض التي يقدمها من خلال قراءة الجدوى الاقتصادية للمشاريع المطروحة. وليس أصعب من قبول كل ما في وصفات الصندوق سوى التشاطر عليه لأخذ المساعدات، ثم تكرار تجارب دول فاشلة تهربت من إجراء الإصلاحات.
والمزاج الذي تحاول الحكومة التعبير عنه ينطبق عليه قول إميلي ديكنسون: "الأمل هو الاستمتاع سلفاً بالمستقبل". لكن الخطة تحتاج إلى سرعة في التنفيذ. "ولا أحد يبلّ الطين ثم يتركه كما لو أنه سيصبح آجراً بالحظ"، كما قال قديماً بلوتارك. ولا شيء يوحي أننا محظوظون.