إن مفهوم التضحية بكبش الفداء قديم، وله أمثلة متعددة في كل ثقافات العالم، وهو سلوك يفسره طبع عميق يتمثل في ميل البشر إلى إلقاء اللوم على غيرهم عند حدوث أمر سيّء، وذلك رغبة منهم في تنزيه ذاتهم عن الخطأ والبحث خارجاً عن فادٍ لإسقاط المسؤولية والذنب عليه. ومن الناحية الديناميكية النفسية، يتم تعريف كبش الفداء على أنه عملية استخدام فيها آليات الإسقاط والإسناد والإحالة لتركيز مستويات من الهجوم والعداء والفشل، وما إلى ذلك، على فرد أو مجموعة.
تكتيك سياسي
من خلال دراسته الأساطير وتاريخ التطور العقلي للبشر، ينقل عالم الأنثروبولوجيا "جيمس فريزير" عن الإثينيين، أن من عاداتهم الاحتفاظ بأشخاص خاملين للتضحية بهم، وكان إذا حلت بهم كارثة كالطاعون أو الفيضانات أو المجاعة يقودون "كبش الفداء" هذا إلى خارج المدينة ويتخلصون منه، غالباً بالرجم.
كانت البشرية في ذلك الوقت لا تتحمل الكوراث فقط بل المسؤولية عن حدوثها أيضاً، ويبدو أن الفكرة الوثنية هذه تطورت خلال التاريخ، وأخذت أشكالاً متعددة من حيث طريقة التطبيق وتفاصيلها إلى أن أصبحت تُستثمر بشكل كبير في الصراعات كتكتيك سياسي فعّال، لإلهاء عامة الناس من جهة وكسب تأييدهم من جهة أخرى، وكذلك كعامل أساسي لنجاح العمل الدعائي السياسي، الأمثلة التاريخية كثيرة وإسقاطاتها الحالية خير دليل.
سياسة ناجحة
يُخبرنا التاريخ أن السلطة تعتمد على ما تحجبه أكثر مما تُظهره، وقد طبق كبار القادة هذه القاعدة بأن أنكروا إخفاقاتهم وأخفوا مسؤوليتهم بإلقائها على ضحية بديلة خلال وفي نهاية كل أزمة.
فأثناء رحلة ترسيخ القاعدة السلطوية ومحاولة التخلص من المنافسين، خصوصاً في زمن الاضطرابات الكبرى، يقع القادة في الاستعجال وسوء التقدير الذي تنتج منه أخطاء فادحة تهدد وجودهم، فيستغلها المعارضون للتحريض على التمرد وخلق روح التذمر بين الجموع، وهنا يتعين على القائد إما الاعتذار مع التضحية بمظهره وفتح أبواب التشكيك في كفاءته، أو البحث في الخيار الثاني عن كبش فداء يحمله نتيجة ما حصل، خيار يُعتمد دائماً قياساً لما يعود على صاحبه من مكاسب وما يتركه في عقول الناس من أفكار داعمة عن العدالة والحكمة والحزم في معاقبة المُخطئين، فعقاب مذنب "مختلق" يولد لدى الجموع شعوراً بالرضا والخوف معاً، الشعورين اللازمين دوماً لاستمرار الحكم وتعزيز السطوة، بدءاً من الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ"، الذي قدم سكرتيره الخاص كبش فداء بعد فشل الثورة الثقافية وما خلفتها من خراب، وصولاً إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب اليوم.
دونالد ترمب
كل شيء كان يمشي على ما يرام بعد سلسلة نشاطات سياسية وتحالفات مثمرة وقفزات نوعية على صعد عدة، حَوّلت ترمب إلى مارد للعقوبات الدولية، حتى ظهر كورونا هادماً كل ما بناه خلال سنوات الأربع الماضية. كان من الواضح أن ترمب تفاجأ واضطرب، وبدلاً من الاستجابة السريعة مع الحدث اكتفى بتوجيه أصابع الاتهام إلى الصين متناسياً وجود الأزمة، ومستمراً بالإنكار والتخبط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رد فعل الرئيس الأميركي جاء بطيئاً جداً ومستهتراً في التجاوب مع تحذيرات منظمة الصحة العالمية التي دقت ناقوس الخطر باكراً، واقترحت حالة طوارئ صحية معلنة الفيروس وباءً عالمياً يتوجب التعامل معه فوراً. كل هذا لم يحث ترمب على التحرك إلى أن تفشى الوباء بشكل كبير، وبدأ الأميركيون نتيجة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية، بلومه على التأخر في إجراء الاختبارات وتخزين المعدات الصحية، وكذلك التشكيك في صوابية قراراته السابقة وقدرته على إدارة ملف كورونا من جهة، وما ترتب عنه من جهة أخرى، إضافة إلى ترويج خصومه على أنه خذل أميركا.
وللخروج من المأزق، بدأ ترمب بالبحث عن كبش فداء واحد، أو أكثر، يحمله أخطاءه ويوجه إليه الغضب العام. فعاد إلى أيديولوجيته المفضلة في إلقاء اللوم على خصومه واستخدامهم ضحايا بديلة يحملها وزر إخفاقاته.
عدو جديد
صاحب عبارة "أنا لا أتحمل المسؤولية على الإطلاق"، التي أثارت جدلاً في لقاءاته الماضية التي اكتنفها التردد والتخبط، بدا مرتاحاً بتوجيه اللوم لمنظمة الصحة العالمية، عدوه السياسي الجديد المنضم حديثاً لقائمته السوداء، لتحميلها الإخفاقات والأخطاء التي وقعت بها إدارته، متهماً إياها بالتواطؤ مع غريمته الصين وغض النظر عن الكثير من ممارساتها السابقة والحالية، وبأنها لم تعترف بتفشي المرض عند اكتشافه لأول مرة في ووهان، ولم تتصرف بشكل جيد لمواجهة الفيروس، ليعلن بشكل حازم في إحدى إحاطاته اليومية للفيروس التاجي عن تعليق تمويله للمنظمة، الذي بلغ عام 2019 بحسب أحدث المعلومات المتوفرة، حوالى 553 مليون دولار، مشكلاً عشرة في المئة تقريباً من ميزانية المنظمة، قبل أن يعود لتردده ويتراجع عن قراره "شفهياً" بعد 15 دقيقة، قائلاً: "لا لم أقل سأوقف التمويل، قلت سننظر في الأمر".
استغلال واضح
الرئيس الذي اشتهر بسياسة الدعاية المزدوجة في حملاته الإعلانية، عبر تقديمه وعوداً وخططاً مستقبلية جريئة من جهة، ومحاولته إضعاف منافسيه من جهة أخرى، انتقل للعب على وتر ثان بتوجيه اللوم على أندرو كومو حاكم نيويورك، حيث سُجّل أعلى رقم إصابات بالفيروس، بعد طلب الأخير الحصول على أجهزة تنفس، متهماً إياه بالتباطؤ في اتخاذ القرارات والامتناع عن تخزين الأجهزة الطبية في السنوات السابقة، كاشفاً أن كومو رفض نصائح عدة لعقد صفقة تخزين للأجهزة عام 2015 بسعر منخفض للغاية. إدعاء جرى التثبت من عدم صحته وفقاً للتقرير الصادر عن وزارة الصحة في نيويورك في العام ذاته.
ربما كانت حيلة أخرى استخدمها ترمب لتحويل اللوم إلى كومو "الديمقراطي" ووضعه في دائرة الشك، بتحميله جزءاً من المسؤولية بخصوص كورونا ولتحقيق مكاسب انتخابية ضد كومو وغيره من المعارضين في الحزب الخصم، حيث تمنح الاستطلاعات المبكرة التفوق لمنافسه الديمقراطي في انتخابات قَلبها تفشي الفيروس التاجي رأساً على عقب.
إدعاء جديد
ترمب لا يزال مستمراً بطرح نظريات المؤامرة على أوسع نطاق، إذ ادعى قبل أيام امتلاكه أدلة تثبت أن مختبر معهد ووهان لعلم الفيروسات هو مصدر "كوفيد-19"، مناقضاً بذلك تصريح الاستخبارات الأميركية الذي أكد قبل ساعات أن هذا الفيروس لا يمكن أن يكون من صنع الإنسان أو معدلاً جينياً، ومتهماً الصين بافتقارها إلى الشفافية وبتقاعسها عن حصر انتشار الوباء في نطاق نشوئه، وبأنها مستعدة لفعل أي شيء كي تخرجه مهزوماً من الانتخابات المقبلة. كما وصف منظمة الصحة العالمية بأنها تقوم بدور مكتب العلاقات العامة للصين.
إن لتنزيه النفس عن الخطأ والخروج بهيئة المنقذ سطوة هائلة يحاول القادة استغلالها لرفع شعبيتهم والتأثير في خصومهم، ولا يتوانون عن التضحية بأي شيء في سبيل ذلك.
ولكن... هل تنجح هذه اللعبة كل مرة؟