في واحدة من قصائده البديعة التي غنّاها جان فيرّا، يذكر الشاعر الفرنسي لوي آراغون الرسام بول سيزان بكونه غيّر الرسم والعالم بتفاحة وطاولة. ومن الواضح أن سيزان غيّر الرسم بأكثر من ذلك بكثير. لكن المهم ليس هنا، المهم في ذلك التعبير الذي حين ابتدعه آراغون كان يعرف ما يقول. فإذا أضفنا إليه ما يقوله شارل آزنافور في أغنيته "البوهيمية" من أنه ورفاقه كانوا سعداء في مونمارتر حتى وإن كانوا يعرفون أنهم ليسوا جميعهم سيزان. يمكننا فهم المكانة التي احتلها هذا الرسام في تاريخ الفن.
طبعاً رسم سيزان أكثر من تفاحة وطاولة، بل رسم لوحات هي من التنوع والقوة والتشكيل والتلوين ما يجعله واحداً من المؤسسين الكبار لفنون القرن العشرين، حتى وإن كان من الصعب حصره في مدرسة أو تيار.
ونعرف أنه حين الكتابة عن سيزان سيكون الكاتب حائراً في اللوحة التي يختارها للتوقف عندها. ومن هنا غالباً ما يكون الاختيار عشوائياً، لكنه دائماً ما يفي بالغرض. ولسوف نتوقف هنا عند واحدة من لوحاته الجميلة التي قليلاً ما يُتوقَّف عندها، ونعني بها لوحته "صبية تعزف البيانو" المعلقة بمتحف الإرميتاج في سانت بطرسبرغ في روسيا، ما قد يفسر غيابها الجزئي عن أضواء الإعلام.
تلك الحياة البرجوازية الوادعة
لوحة الصبية والبيانو هذه (92سم×57سم) رسمها الفنان بين عامي 1869 و1870، معطياً إياها عنواناً ثانياً من الصعب فهم الدافع إليه؛ "افتتاحية تانهاوزر". ومع أن المرجح على أي حال أنه استوحاه من الشهرة التي كانت لأوبرا فاغنر في ذلك الحين، ومهما يكن من أمر يقول لنا تاريخ الفنان إنه رسم في الحقيقة في تلك المرحلة لوحة أخرى مستوحاة من مقدمة "تانهاوزر". أما هذه فيبدو أنه رسمها وأهداها إلى أخته التي سعدت بذلك المشهد البرجوازي الحميم، الذي يصور صبيتين هادئتين كل منهما غارقة في أحلامها؛ واحدة تعزف والأخرى تقوم بأشغال منزلية. هل كان سيزان يتوخى هنا تسجيل لحظة واقعية دون تحديد هوية المرأتين المرسومتين كنوع من التوق إلى حياة هادئة وديعة في بيئة يومية ما؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالتأكيد خاصة أن سيزان عبّر هنا عن تأثره بالتلوين الداخلي الإسباني الذي سيظل من علاماته الفارقة، كما من اشتغاله الدؤوب على الخطوط الهندسية للمكان في تمييز لخطوط آلة البيانو نفسها، كما على تلك الجلسة المتعارضة التي جعلها للمرأتين بحيث عبّرت إحداهما عن مشهد جانبي، فيما عبّرت الثانية عن مشهد وجاهي، وكأننا هنا أمام وضعيتين لامرأة واحدة، من دون أن يغيب عن انتباهنا ذلك الاشتغال "العشوائي" على "موتيفات" الديكور بالتناقض مع "موتيفات" الكنبة الجانبية وفي تقابل بين اللونين الأبيض والأسود الطاغيين على ملوّنة الفنان.
في النهاية واضح هنا أن في وسعنا النظر إلى اللوحة بكونها "بورتريه مزدوج" تشغل كل من الصبيتين حيزاً خاصاً فيها مع غرقهما معاً، كما يبدو، في نوع من حلم يقظة يصعب عليهما الخروج منه.
حيرة بين الأدب والمحاماة قبل الفن
في نهاية المطاف قد يصل بنا هذا إلى نوع من صيغة أدبية للوحة تعبّر من ناحية عن تأثر سيزان بصديقه إميل زولا، كما من ناحية ثانية، عن تلك الحيرة التي استبدت به طويلاً بين نزعته في اتجاه الأدب ونزعة حوّلته إلى الفن. مهما يكن لا بد أن نشير أولاً الى أن سيزان ظل خلال مرحلة طويلة من حياته حائراً بين أن يصبح كاتباً على غرار زولا، أو محامياً كما كان يريد له أبوه. لم يكن ليفكر، حتى، في أن يصبح رساماً، ومن هنا فإنه لم يكتشف أن لديه مواهب في فن الرسم، إلا وقد أربى على الحادية والعشرين من عمره. لكنه ظل سنوات طويلة أخرى يكاد يكون هو الوحيد الذي يؤمن بمواهبه الذاتية. فالفشل كان نصيب معظم ما رسم من لوحات، والرفض كان مصيره في كل مرة كان يتقدم فيها للمشاركة في معرض من المعارض. وحتى حين كان يتمكن، بطريقة أو بأخرى، من فرض لوحة له في معرض، أو عند واجهة محل لبيع اللوحات، كانت سخرية الجمهور دائماً من نصيبه. ولقد بلغ به هذا الحال حداً لا يطاق، لكنه أبداً لم يدفعه إلى التخلي عن فنه. وحتى حين كتب صديقه إميل زولا روايته "العمل" التي تستوحي حياة رسام كان الفشل نصيبه الدائم، ما كان من صاحبنا إلا أن قاطع زولا بعد صداقة استمرت أكثر من ثلاثة عقود من السنين.
كان كل ما في حياة بول سيزان كرسام يدفعه إلى الفشل والتخلي عن فن الرسم. أسرته، أصدقاؤه، لوحاته نفسها واستقبال الجمهور والنقاد لها. لكن سيزان كسب رهانه آخر الأمر، وها هو اليوم يعتبر المجدد الأكبر في الفن التشكيلي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويكتب عنه النقاد عام رحيله 1906 بوصفه الفنان الذي عرف كيف ينقل اللوحة من مجاهل القرن التاسع عشر إلى آفاق القرن العشرين.
انطباعيّ رغماً عمه
في نهاية الأمر كان فن سيزان انطباعياً، لكنه كان يختلف كثيراً عن فنون الانطباعيين الآخرين، على رغم زمالته لرينوار ومونيه ومانيه. وكان كلاسيكياً جديداً، لكنه يختلف مثلاً عن صديقه بيسارو. كان كما أشرنا أقرب إلى الفن الإسباني، بل لنقل إنه في مجال تعاطيه مع مفهوم الضوء في اللوحة ومع اللون الأسود والألوان الغامقة، عموماً، كان أقرب إلى الإسبانيين، أي أنه بمعنى من المعاني كان حلقة الوصل بين غويا وتسورباران، وبين بيكاسو، الإسباني الأخير الذي نقل إلى فرنسا، بعد سيزان وبشكل يفصله وضوحاً مجمل التراث البصري الإسباني.
ولد بول سيزان، وكان من أصل إيطالي كما هو حال زولا، في عام 1839 في ايكس - آن - بروفانس، وهناك خلال الدراسة الابتدائية تعرف إلى إميل زولا وارتبط معه بصداقة دامت طويلاً. وهو بتأثير من زولا قرر أن يتجه لعمل إبداعي ما. ولكن، في البداية بدا أن الموهبة تنقصه. ومن هنا لم يتجه إلى الرسم إلا وقد أصبح شاباً، غير أن كل الرسوم التي بدأ يحققها، كانت مجرد نقل للوحات كان يتفرج عليها في متحف اللوفر بعد أن انتقل مع أمه إلى باريس في عام 1858. ومن هنا فإن أياً مما كان يحققه من لوحات لم يلفت الأنظار، على الرغم من دراسته الرسم بشكل جدي في "المحترف السويسري" لمدة خمس ساعات يومياً، وعلى الرغم من أن صديقه بيسارو لم يتوان عن جمعه بشباب الرسم في تلك المرحلة من الذين سيبدعون المدرسة الانطباعية.
مهما يكن فإن النقاد الأكثر إنصافاً قالوا إنه لئن غاب عن لوحات سيزان في ذلك الحين البعد الجمالي الذي كان يميز لوحات زملائه، فإنه كان، على الأقل، يفوقهم جرأة ورغبة في التحدي، خطاً ولوناً وموضوعاً.
اكتشاف بالتقسيط
لكن سيزان لم يكن من الصنف الذي يُهزم وييأس بسرعة، لذلك نراه يثابر، ويستقي من الفن الإسباني ما أضاف إلى أسلوبه، ثم جاءت وفاة والده لتريحه مالياً بعض الشيء، فإذا به ينصرف كلياً إلى الرسم، ويبدأ بتحقيق تلك اللوحات (لوحات الطبيعة الصامتة) التي راحت بالتدريج تلفت الأنظار وتفرضه كمتميز بين رفاقه.
أما بداية شهرته الحقيقية فكانت بعيد عام 1880 حين راح الرسامون الشباب يكتشفون أعــماله بالتدريج، وكتب عنه الناقد والكاتب هويسمان، مقالاً لفت إليه أنظار النخبة. ومهد لدعوته إلى معرض دولي في بروكسل، كما إلى تنظيم معرض شامل لأعماله في عام 1895 بباريس، وهو المعرض الذي أثار حماسة الرسامين الشباب وجامعي اللوحات في الوقت نفسه. ومن بعده لم يعد سيزان مجهولاً أبداً، بل صار ذا حظوة عند الجميع، وبدأ الدارسون يتوقفون عند أعماله لدرجة أن بعضهم راح يعتبره الأب الشرعي للعديد من التيارات الفنية التي سادت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي طليعتها التيار التكعيبي والتيار الذي عرف باسم "التيار المستقبلي".