"أن تكون وسط الملايين من الناس القادمين من أرجاء الأرض لغسل ذنوبهم وأخطائهم وتجديد إيمانهم، فهذا شيء عظيم، إنها حقا تجربة فريدة ومميزة من نوعها، لتعميق الممارسة الروحية".
هكذا تقول "مهيما ميسرا"، المرأة الستينية، التي جاءت بصحبة أسرتها الأربعة من أجرات (أقصي الغرب الهندي)، إلى موقع "الحج" الهندوسي، بينما يتساقط الماء من على جسدها، بعد أن خرجت لتوها من مياه نهر "الغانج" المقدس، الذي يقبل عليه "الحجاج" الهندوس من أرجاء الهند للاستشفاء من أمراض الجسد والتطهر من خطايا الرُّوح، وفقا لمعتقدهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن المرأة الستينية هي الوحيدة التي تهيمن عليها هذه المشاعر الرُّوحية. فما إن تطأ قدماك مدينة براياجراج بولاية أوتار براديش (الله أباد سابقاً) في أقصي الشمال الهندي، إلا وتجد ملايين الهندوس قد قطعوا آلاف الكيلومترات للقدوم إلى النهر المقدس، بحثا عن "استعادة الحياة"، وتجديد الإيمان والعهد مع الله، عبر الاغتسال عند ملتقى نهري الغانج ويامونا مع نهر ساراسواتي "الأسطوري"، وفقما أخبر الحجيج "اندبندنت عربية".
الحج الهندوسي
يمتد المهرجان الديني، أو الحج الهندوسي لثمانية أسابيع (بدءاً في 20 يناير/ كانون الثاني)، ويصل عدد زواره لنحو 150 مليون شخص هذا العام، بينهم مليون زائر أجنبي، وفقما أعلنت السلطات الهندية لـ"اندبندنت عربية".
يؤمن الهندوس المتدينون والزائرون بمعتقدات مختلفة، بينها أن الاستحمام في مياه الغانج يغفر الخطايا، والاغتسال وقت مهرجان "كمبه ميلا"، أو مهرجان "الوعاء المقدس" يجلب الخلاص من دورة الحياة والموت، وينشد السمو الرُّوحي.
الوعاء المقدس
وفق منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة "اليونسكو"، يعد مهرجان كمبه ميلا (الوعاء المقدس) أكبر تجمع سلمي للحجاج في العالم، حيث يقصد الزوار نهر الغانج ليستحموا أو يغطسوا فيه اعتقاداً منهم بتخلص الإنسان من خطاياه.
يقام مهرجان كمبه ميلا، كل أربع سنوات في واحدة من أربع مدن بالتناوب، هي أوتار براديش (الله أباد سابقاً)، وهاريدوار، وأوجان وناشيك، ويحضره ملايين الناس بغض النظر عن الطائفة أو العقيدة أو الجنس، ولهذا المهرجان دورٌ روحيٌّ أساسي في الهند، وله تأثير هائل على الهنود العاديين. حيث يجمع وفق زائريه بين علم الفلك، والتنجيم، والروحانية، والتقاليد الطقسية، والعادات والممارسات الثقافية والاجتماعية، ما يجعله مهرجاناً زاخراً بالمعرفة بتجلياتها المختلفة.
وبما أن المهرجان يقام في أربع مدن مختلفة في الهند، صار من الطبيعي أن يعبر عن أنشطة اجتماعية وثقافية مختلفة، ما جعله مهرجاناً متنوعاً على المستوى الثقافي.
تُستقى المعارف والمهارات المتعلقة بهذه التقاليد من المخطوطات الدينية القديمة، والتقاليد الشفوية، وكتب الرحلات التاريخية والنصوص التي كتبها كبار المؤرخين. ولكن تبقى العلاقة بين المريد والشيخ فيما يتعلق بالنساك المعتكفين في المعتزلات (الأشرم) والزهاد أهم وسيلة لنقل وصون المعارف والمهارات الخاصة بالكمبه ميلا، بحسب "اليونسكو".
أغرب معتقدات "كمبه ميلا"
أينما ذهبت عيونك تجد المكان زاخراً بجمع هائل من الزهاد والقديسين والنساك (من طبقة السادهو) والمتعبدين من فئة الكالبافاسي والزوار، أما الحاملون الأساسيون لهذا التراث فهم الزهاد من فئة الأخادا وأصحاب المعتزلات الهندوسية (يسموا أشرام) وكذلك المنظمات الدينية أو الأفراد الذين يعيشون على الصدقة، حيث يكسو أجسادهم الرماد، وبعضهم يعيش في الكهوف، يكونون عراة إلا من سترة على الوسط، ومنهم من يخلع تلك السترة ليكون عاريا تماما.
وبحسب البروفيسور المختص في التاريخ الهندي نيشا بنجاني، فإن "كمبه ميلا يمثل اختصار الرحلة من عدم اليقين إلى اليقين، ومن الظلام إلى النهار، ومن الموت إلى الخلود، ويعكس حالة التسامح والسلام الاجتماعي والنفسي لدى زواره، وبين الجنسيات والمعتقدات المختلفة".
يضيف بنجاني، "يسيطر على قاصدي الحج الهندوسي شعور بوحدة المقصد، وبأن يتخلصوا من الشرور، ويتطهروا في النهر المقدس، يتوافدون إلى المكان ويغمرون أجسادهم في مياه النهر، ويملأون أوعية حملوها معهم من النهر، ويسكبونها على رؤوسهم للاغتسال من الخطايا".
بتأمل مئات الآلاف في النهر أو على ضفتيه، حيث يقيمون في خيام أعدت لهذا الغرض طوال فترة المهرجان الديني، يلاحظ المتتبع اختلاف قليل في الشعائر الممارسة بين فئة وأخري، ما يعكس تنوعا كبيرا في الحشد الموجود.
التسلح بالرماح والسيوف
ففي الوقت الذي ترى فيه بساطة في الاغتسال والغطس في النهر وسكب المياه على الأجساد بعد تعبئتها في زجاجات، تجد نساكا هندوسا يعرفون بالناجا سادهو، ملطخة أجسادهم بالرماد، ومجدولة شعورهم، وعراة إلا من عقود من الخرز وبتلات الزهور ويدخنون غلايين خشبية، إذ يعد المهرجان أحد الفرص القليلة، بالنسبة لهم لرؤية هؤلاء الزهاد الذين يعيش بعضهم في كهوف بعد أن أقسموا على التبتل والزهد في المتاع الدنيوي. وعند نزولهم إلى الماء للاغتسال، يكون الكثير منهم مسلحين بالرماح والسيوف، وهو أحد أبرز مشاهد المهرجان.
ناسك من مدينة "ماتورا المقدسة" في شمال الهند يدعى ندناد سواتي قال لـ"اندبندنت عربية": " كمبه ميلا، تجمع لكل الناجا سادهو في نقطة التقاء هذه الأنهار المقدسة، يقدمون رسالتهم إلى الناس، ويساعدون الناس على تغيير أنفسهم والاغتسال من خطاياهم".
يضيف: "ينزل الزاهدون خلال المهرجان، في أديرة مؤقتة تعرف بالأكهارا على الضفة الشرقية لنهر الجانج، ويمضي الناسكون الوقت في التأمل، وتدخين القنبن واستقبال الزوار القادمين لإبداء الاحترام لهم".
تابع: "يشرب معظم الحجاج قطرات من مياه نهر الغانج، والكثير منهم يملأون زجاجات من مياه هذا النهر لأخذها معهم حينما يعودون إلى منازلهم".
زائر جنوب أفريقيا
زائر أجنبي يدعي أدولين، من جنوب أفريقيا، قال لـ"اندبندنت عربية": "يبدو الأمر كالحلم، تقرأ عنهم لوقت طويل. يصبحون أشبه بشخصيات خيالية ثم تلتقيهم"، وأشار إلى أنه "من أبرز النشاطات التي تميز المهرجان فعالية "سادهوس" التي يقود خلالها الرجال الهندوس الذين يحظون بالقداسة المسيرات بمشاركة الفيلة والجمال والخيول والعربات والفرق الموسيقية".
خدمة زوَّار النهر المقدس
للوهلة الأولي حين ترى كزائر أجنبي، لأول مرة يحضر طقساً دينياً مهيبا كهذا، يبلغ عدد رواده نحو 150 مليون شخص من مختلفي المذاهب، تتبادر أسئلة إلى ذهنك عن إمكانية تأمين مثل هذا التجمع الهائل من البشر، لكن مع وصولك إلى مكان المهرجان، تلاحظ انتشارا أمنيا مكثفا في بلد يصل تعداد سكانه نحو مليار و300 مليون نسمة، يصبغهم تنوع هائل سواء في اللغة أو المعتقد أو الثقافة، وقتها تشعر وكأنك في كوكب آخر غير كوكب الأرض.
منذ الوصول إلى مطار ولاية "أوتار براديش"، الذى يبعد نحو 30 كيلو متراً عن موقع الاحتفال، لا تجد عناء في ملاحظة تحليق مكثف للطائرات الهليكوبتر في السماء، فضلا عن اصطفاف آلاف رجال الأمن على جانبي الطرقات المؤدية إلى مكان الاحتفال، وصولا بآلاف المتطوعين الهنود، من أديان وثقافات مختلفة، قدموا لمساعدة الحجيج الهندوس، بينما تقيم السلطات الفيدرالية الهندية، عشرات المستشفيات ومئات المطابخ وآلاف الحمامات المحمولة، والخيام لتسهيل المناسك على قاصدي المهرجان، وإقامة عدد من نقاط التفتيش.
ومع اقترابك من موقع الاحتفال، يمكنك رؤية الدخان وهو يتصاعد من مئات المواقد الصغيرة التي يشعلها الحجاج بهدف إعداد الطعام، حيث يأتي الزوار إلى المنطقة، يحملون أمتعتهم فوق رؤوسهم، بينما يقوم باعة ببيع الحلوى وغزل البنات وبالونات مضيئة.
المتطوعون
أحد حفيظ، المسلم الهندي المتطوع لمساعدة الحجيج الهندوس، يقول: "هذه أول مرة آتي لحضور كمبه ميلا، فأنا أنتمي بالأساس لمنظمة تطوعية بولاية أوتار براديش، من ضمن عملها مساعدة الحجاج وقت الاحتفال بالمهرجان الديني".
حفيظ، الثلاثيني، يضيف: "الناس يأتون إلى هنا لأداء طقوس مختلفة، بداية من الصلوات على الأرواح التي غادرت عالمنا إلى نثر رماد موتاهم. يأتي الناس للصلاة من أجل أسلافهم، أو تقديم قرابين من الملابس أو الأبقار، كل شيء يحدث داخل مركز براياجراج العظيم للحج".
الكاهن الهندوسيّ
خلال المهرجان تجد مهنة الكاهن الهندوسي رواجاً وانتعاشاً، إذ يقيم الصلوات يومياً أمام المئات من أتباع الديانة الهندوسية الذين يدفعون له رسوماً مقابل تحقيق أمانيهم.
ووفق أحد الكهنة الهندوسيين، فإنه "يقيم هذه الصلوات منذ عشرات السنين، ويساعد أجيالاً من الزوار على أداء طقوسهم المختلفة، بداية من الطقوس الأخيرة التي أداها أسلافهم وحتى الصلوات الأولى لحديثي الولادة".
أصل المهرجان
وفق عدد ممن التقهم "اندبندنت عربية" خلال جولتها في مكان المهرجان، بينهم رجال دين، فإن أصل مهرجان "كمبه ميلا" يعود إلي آلاف السنين، وتحديداً خلال العصر الفيدي (ما بين 1000/ 2000 عام قبل الميلاد).
تقول الأسطورة الهندوسية للاحتفال، أنه في تلك الفترة، انتزع الإله فيشنو (الإله الأعلى أو الحقيقة العليا في الهندوسية) وعاء ذهبيا يحتوي على رحيق الخلود من الشياطين، وخلال 12 يوما وليلة من الصراع على الوعاء سقطت أربع قطرات من الرحيق إلى الأرض في مدن براياجراج وهاريدوار وأوجاين وناشيك، التي يقام بها المهرجان بالتناوب، وذلك قبل أن تتوصل الآلهة والشياطين لاتفاق مؤقت يقضي بالتعاون على خض رحيق الخلود في محيط القطرات الأولى وتقسيمها بالتساوي بينها. لكن عندما ظهرت الكومبه (القارورة) التي تحوى الرحيق هربت الشياطين بها ولحقت بها الآلهة.
على امتداد الكرة الأرضية، تتعدد الأماكن المقدسة التي يقصدها الناسكون والتائبون والعابدون حول العالم بمختلف معتقداتهم، بحثا عن حالة من الاتصال الروحي مع الله. فالرغبة في الحج راسخة بالطبيعة البشرية في محاولة لتطهير النفس من الأغراض الدنيوية، ومحاولة للوصول إلى النقاء، لذلك اختلفت طريقة الحج من ديانة إلى أخرى.