تعتقد ماريا كيفالاس أن زوجها باتريك كار "ضحية منسية" لفيروس كورونا المستجد. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي عانى كار، أستاذ علم الاجتماع في جامعة روتجرز في فيلادلفيا، انتكاسة صحية إذ عاود سرطان الدم مهاجمة جسمه النحيل بعد مرور ثماني سنوات على شفائه من هذا المرض. قدم الرجل طلباً لتلقي جرعات العلاج الكيميائي اللازمة لإعادة السيطرة على المرض قبل تفشيه. لكن طلبه تزامن مع بدء استعار الفيروس التاجي في فيلادلفيا، ومع تقنين إمدادات أكياس الدم، لم يتمكن من الحصول على ما يكفي من أكياس لازمة لتخفيف فقر الدم تمهيداً لبدء العلاج الكيميائي. نتيجة ذلك، أُلغيت مواعيد زياراته إلى العيادة على الرغم من تدهور حالته الصحية.
في 7 أبريل(نيسان)، بدأ كار تلقي الرعاية الطبية في منزله، لكنه ما لبث أن توفي في 16 أبريل، عن عمر يناهز الـ53. تؤمن زوجته أن وباء كورونا "عجل بموته". تقول كيفالاس، أستاذة علم الاجتماع بجامعة سانت جوزف في فيلادلفيا: "لا أقول إن زوجي كان سيقهر السرطان. ما أقوله إنه من غير المعقول خلال أربعة أشهر فقط، أن يحدث هذا الانهيار الحاد في نظام الرعاية الصحية، وأن تجد نفسك تقاتل من أجل الحصول على كيس الدم، وأن تكافح من أجل الحصول على خدمات ممرضة ترعاك". وتضيف كيفالاس في حديثها إلى صحيفة نيويورك تايمز: "ثمة أشخاص مثل زوجي يموتون الآن ليس جراء الإصابة بفيروس كورونا، ولكن لأن نظام الرعاية الصحية أصيب بشرخ زلزالي مدمر ابتلع كل شيء".
قلق عالمي
هزّت جائحة كورونا كل ركن من أركان الرعاية الصحية في العالم، وتحديداً أقسام علاج السرطان، وزرع الأعضاء، وجراحات القلب والأعصاب والدماغ. ووفقاً للدكتور سامين شارما، رئيس مختبر القسطرة القلبية بمستشفى جبل سيناء في نيويورك، انخفض عدد مرضى النوبات القلبية المترددين على المختبر من سبعة في فبراير(شباط) إلى ثلاثة في مارس(آذار)، فيما لم يشهد أبريل حتى الآن سوى حالتين. وهذا ليس حال الولايات المتحدة فحسب. إذ يقول الدكتور فالنتين فوستر، المحرر المسؤول بمجلة الكلية الأميركية لأمراض القلب، إنه تحصَّل على تقارير عديدة من جميع أنحاء العالم تبُين انخفاضاً حاداً في مرضى النوبات القلبية في المستشفيات. يضيف أن مستشفى في جايبور بالهند، على سبيل المثال، عالج 45 مريضاً بأزمة قلبية في يناير، و32 في فبراير، و12 في مارس، و6 فقط حتى الآن في أبريل.
وبحسب تقديرات حصل عليها موقع أكسفورد أكاديميك المرموق من باحثين في النمسا فإن 110 أشخاص توفوا في مارس جراء نوبات قلبية غير معالجة، مقارنة بـ86 توفوا بسبب إصابتهم بفيروس كورونا. واستند الباحثون في حساباتهم إلى انخفاض حاد في عدد المرضى الذين يترددون إلى المستشفيات، والعدد المتوقع للنوبات القلبية في النمسا، ومعدلات الوفيات الناجمة عن الأزمات القلبية غير المعالجة. ويقول الدكتور ريتشارد تشازال، المدير الطبي لمعهد القلب والأوعية الدموية في مركز لي هيلث الطبي بفلوريدا: "إنني قلق للغاية من أننا نخلق مشكلة ستكون لها عواقب طويلة المدى على صحة المجتمع". يرجح الدكتور فوستر أن يكون الناس قد أصبحوا أكثر صحة لأنهم باتوا يأكلون بشكل أفضل، ويمارسون الرياضة بشكل أكبر، وما فتئوا تحت ضغط أقل جراء العمل من المنزل. لكن خبراء آخرين يشككون في أن العادات الصحية الأفضل يمكن أن يكون لها مثل هذه الآثار الفورية. إذ ليس ثمة دليل على أن الناس يمارسون الرياضة بشكل أكبر، أو أنهم يتعرضون لضغوط أقل جراء العمل من المنزل.
نقص فادح
تعاني المستشفيات والمراكز الطبية حول العالم، من تفشي جائحة كورونا المستجد، نقصاً فادحاً في الأسرة، وأكياس الدم، والأطباء والممرضات، وأجهزة التنفس الصناعي. وتم تحويل غرف العمليات إلى وحدات للعناية المركزة، فيما أعيد توزيع مهام الجراحين لعلاج الأشخاص الذين لا يستطيعون التنفس بدلاً من القيام بعمليات جراحية. وباتت المراكز الطبية تتردد في إدخال المرضى ما لم يكن ذلك ضرورياً تماماً، خوفاً من إصابتهم أو إصابة العاملين الصحيين بالفيروس، كما بات المرضى أنفسهم يخشون وضع أقدامهم داخل أي مستشفى حتى لو كانوا يعانون بشدة من أمراضهم.
ومع بدء نشر الوباء ظلاله، اتخذ العديد من المستشفيات خطوات منطقية أوقفت بموجبها العمليات الجراحية الاختيارية، مثل استبدال الركبة، وشد الوجه، ومعظم عمليات الفتاق التي يمكن لها أن تنتظر. كذلك تم وقف التصوير الشعاعي للثدي وفحوصاته. لكن بعض هذه الحالات تقع في منطقة مخاطر رمادية. ففي حين أنها قد لا تكون طارئة، إلا أن العديد من هذه الحالات يمكن أن تصبح مهدِّدة للحياة، أو أنها لو لم تعالج بسرعة قد تترك المريض يعاني إعاقة دائمة. ويواجه الأطباء والمرضى اليوم، على حدٍ سواء سؤالاً مقلقاً: ما هي مدة تأجيل الرعاية أو العلاج الطبي الآمنة؟
إن تأجيل العلاج مزعجٌ بشكل خاص للمصابين بالسرطان، لأنه يتعارض مع سنوات من رسائل الصحة العامة التي تحث على اكتشاف المرض مبكراً وعلاجه في أقرب وقت ممكن. ويقول الأطباء إنهم يحاولون فقط توفير الرعاية الأكثر إلحاحاً لمرضى السرطان في العيادات أو المستشفيات لحماية مرضى السرطان الذين ترتفع احتمالات إصابتهم بعوارض خطيرة فيما لو أصيبوا بالفيروس التاجي. ووفقاً لمسح أجرته "شبكة مكافحة السرطان" التابعة لجمعية السرطان الأميركية، أفاد ربع مرضى السرطان عن تأخيرات في رعايتهم جراء الجائحة، بما في ذلك إلغاء المواعيد الشخصية والتصوير بالأشعة والجراحة والخدمات الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعليق التجارب السريرية
تقول تسفيا بادر، التي تقود شركة تساعد مرضى السرطان في العثور على تجارب سريرية، إن العديد من المرضى المذعورين كانوا يتصلون بها طلباً للنصيحة بشأن التأجيلات الحاصلة في علاجهم. وقد تم تعليق بعض التجارب السريرية التي تُمكن مرضى السرطان من الحصول على علاجات مبتكرة، حسبما يذكر تقرير نشر في صحيفة نيويورك تايمز. وتقول بادر: "إن معدل وفيات السرطان ما انفك يتناقص خلال السنوات القليلة الماضية، وأنا قلقة للغاية لأننا نعود القهقرى إلى الوراء".
أرجأ العديد من المستشفيات جراحات أورام الثدي، وهو قرار يقلق النساء الحريصات على إزالة أورام السرطان. لكن علماء الأورام يقولون إنه بالنسبة إلى معظم حالات سرطان الثدي، وعلى عكس الأورام الخبيثة الأكثر عدوانية، فإنه لا يوجد ضرر في انتظار الجراحة لأنه يمكن تغيير خطة العلاج. ويقول الدكتور لاري نورتون، المدير الطبي لمركز إيفلين لودر للثدي في نيويورك: "يمكننا إعطاء الأدوية بأمان أولاً وبدء الجراحة في ما بعد. الأزمة الحالية ستكون يوماً ما تحت السيطرة، ويمكن أن نعاود لاحقاً". تتضمن الأدوية عقاقير مانعة للهرمونات أو علاجاً كيميائياً بحسب نوع الورم. حتى قبل انتشار الوباء، دعت بعض خطط العلاج إلى تناول الأدوية أولاً ثم إجراء الجراحة في ما بعد. ولكن قد تحتاج النساء أولاً إلى بعض الاقتناع بأنه لا بأس من تغيير خطة العلاج.
تقول الدكتورة إليسا بورت، رئيسة جراحة الثدي في مستشفى جبل سيناء في نيويورك: "إذا علمت أن الفيروس سيبلغ ذروته في غضون أسبوعين وأنه سيتم إخماده في أربعة أسابيع، فسوف نقوم بتأخير الجميع. ولكن لا يمكن تأجيل الكثير من الناس إلى أجل غير مسمى، وستكون هناك نتائج سلبية تتعلق بأي تأخير كبير". تضيف أن النساء اللاتي يُعتقد أنهن بحاجة إلى جراحة للأورام العدوانية ما زلن قادرات على إجرائها، مضيفة أنه يتم اختبار مدى تعرضهن لفيروس كورونا قبل 48 ساعة من العملية.
توقف التبرع بالأعضاء
وتقول هيلين إيرفينغ، الرئيس التنفيذي لـLiveOnNY، التي تنسق عمليات زرع أعضاء المتبرعين المتوفين على الساحل الشرقي: "لقد انخفض عدد المتبرعين الملائمين الذين يمكن أن يتبرعوا بأعضائهم بشكل كبير". والمتبرعون الملائمون هم الأشخاص الذين توقف دماغهم عن العمل وموصولون بأجهزة دعم الحياة. الآن أصيب العديد من المتبرعين المحتملين بالعدوى، لذلك لا يمكن استخدام أعضائهم. تقول إيرفينغ للصحيفة النيويوركية: "دائماً ما كنا نبحث عن إبرة في كومة قش. نحن الآن نبحث عن إبرة في 500 كومة قش. عادة ما نتتبع زهاء 20 إلى 25 حالة يومياً، لكن العدد وصل الآن إلى ستة أو سبعة أشخاص غير مصابين". إضافة إلى ذلك، فإن أفراد أسرة المتبرع المتوفي أصبحوا غير حاضرين شخصياً لإعطاء الموافقة المطلوبة للتبرع بالأعضاء لأن المستشفيات حظرت الزوار.
في السنوات الأخيرة، جاء العديد من الأعضاء البشرية من متبرعين أحياء تخلوا عن كلية واحدة أو فص كبد. لكن دخول المستشفى اليوم بات يُعرض كلاً من المتلقي والمتبرع لخطر الإصابة بالعدوى، كما تتطلب العمليات جهاز تنفس صناعي لكل مريض أثناء الجراحة. ويتعرض المتلقون للأعضاء المتبرع بها لخطر الإصابة بالعدوى بشكل أعلى من المتوسط، جراء الأدوية المثبطة للمناعة التي يجب تناولها لمنع رفض الأعضاء. يقول الدكتور كاسي ماكيون، جراح زراعة الكلى بمركز كولومبيا الطبي في نيويورك، إنه قبل انتشار الوباء كانت تُجرى حوالى 750 عملية زرع كلى لمتبرعين أحياء أسبوعياً في الولايات المتحدة. بحلول أواخر مارس، انخفض العدد إلى 350 ويستمر في الانخفاض بسرعة.
يمكن إبقاء الأشخاص الذين يعانون الفشل الكلوي على قيد الحياة مع غسيل الكلى. ولكن لا يوجد علاج مماثل لفشل الكبد. تقول الدكتورة مرسيدس مارتينيز، جراحة الزرع في مركز نيويورك الطبي، إن المرضى الذين يعانون أوراماً أو من المحتمل أن يموتوا بسبب فشل الكبد في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة لا يزالون يتلقون عمليات زرع. وتضيف: "نتفهم أن المرضى الذين يعانون من كورونا هم الأولوية، ولكن يمكن أن يموت شخص ما يعاني من مرض الكبد في نهاية المطاف". في بعض المناطق حيث اجتاح مرضى كورونا المستشفيات، تم تحويل غرف العمليات إلى وحدات العناية المركزة، ما حدّ من توافر المواقع لإزالة الأعضاء من المتبرعين المتوفين. تقول الدكتور مارتينيز إن الحالات مع المتبرعين الأحياء تتأثر أيضاً، لأن كلاً من المتبرع والمتلقي يحتاجان إلى رعاية مكثفة بعد الجراحة، والعديد من هذه الأسرّة يشغلها الآن مرضى كورونا.
تحتل جراحة المخ والأعصاب أيضاً مقعداً في باص خسائر كورونا. يقول دكتور ديفيد لانغر، مدير جراحة الأعصاب بمستشفى لينوكس هيل في نيويورك، إن "قسمي لديه 65 عملية جراحية مجدولة". لم يجرِ لانغر ولا جراحو الأعصاب الآخرون عمليات منذ أسابيع، فقد تم إعادة توزيعهم داخل وحدات العناية المركزة لرعاية مرضى فيروس التاجي. يقول لانغر: "مرضى عمليات العمود الفقري لا يريدون القدوم إلى المستشفى. أما بالنسبة إلى الآخرين فالتأخيرات مقلقة. إذ يحتاج بعض المرضى إلى جراحة في الدماغ لمنع السكتات الدماغية. لا جدوى من الانتظار، هم في دائرة الخطر".
حرمان من العلاج
يقول الدكتور بروس لويل، وهو طبيب باطني، إن الجائحة التاجية تقتل أشخاصاً غير مصابين بها بحرمانهم من العلاج الذي هم بأمس الحاجة إليه. ويضيف "ما زال الناس يعانون النوبات القلبية، وما زالوا يعانون السكتات الدماغية. أشعر كما لو أنه لا يوجد أي اهتمام حالياً بخلاف كورونا". وبالفعل، فقد اختفت الخدمات البسيطة والضرورية، إذ لا يتلقى مرضى السكري أو ارتفاع ضغط الدم، وأولئك الذين يحتاجون إلى اختبارات معملية منتظمة لضبط جرعات مميعات الدم الرعاية المعتادة.
وكشف لويل أن بعض مرضاه يعانون مشاكل أكثر خطورة. فقد اتصلت به أحداهن قائلة إنها تشعر بالاكتئاب والضعف، وإنها غير قادرة على تناول الطعام. في الماضي، أشارت اختبارات هذه المريضة إلى أنها عانت من سرطان الدم. عند الاستماع لها ورؤيتها على شاشة الهاتف ومعرفة تاريخها، اشتبه الدكتور لويل في مرض خطير، ربما السرطان. قال لها ذلك، وحثها على الذهاب إلى المستشفى. رفضت المريضة البالغة من العمر 60 سنة خوفاً من إصابتها بفيروس كورونا. مرت خمسة أيام قبل أن يتصل زوجها قائلًا إنها تشعر بوضع أسوأ. مرة أخرى، ناشدهم الدكتور لويل الذهاب إلى المستشفى. لكنها رفضت مجدداً. بعد ساعات قليلة توفيت.
يقول الدكتور لويل: "عندما يرفض مرضاي المصابون بأمراض خطيرة الذهاب إلى المستشفى خوفاً من الإصابة بفيروس كورونا، يغمرني حزن وقاق شديدان. فلقد بتنا جميعاً في مرمى كورونا".