في عام 1585، حلم العالم الإنجليزي توماس هاريوت بالفرص التي ستقدمها التجارة عبر الأطلسي لبريطانيا، إذ حاول جاهداً العمل على تحرّر بلاده من الطرق التجارية الأوروبية وعبر البحر المتوسط، لضمان تحقيق مستقبل مربح له ولمواطنيه؛ فالحرير والنبيذ والزيت والبرتقال والليمون، كله سيأتي من العالم الجديد. وبالفعل، انتعشت التجارة عبر الأطلسي وازدهرت بريطانيا.
لكن القارة الأوروبية هي التي مهدت الطريق لهذا النجاح، عبر إتاحة المجال لعقد الاتفاقيات التجارية اللازمة. بعد ذلك بأكثر من 400 عام، تحلم المملكة المتحدة مجدّداً بالثروات الهائلة التي يمكن تحقيقها عبر التحرر من القارة العجوز. سيجعل البريكست عولمة التجارة هي الحل، لكن خلال القرون الأربع الماضية التي شهدت صعود الإمبراطورية البريطانية وانحسارها، كانت أوروبا هي من زوّدت المملكة المتحدة بالكثير من سلعها الأعلى طلباً. يصعُب أن نتخيّل تغيّر هذا الأمر كثيراً في المستقبل.
في القرن السادس عشر، بلغ التوسّع الأوروبي في العالم الجديد أوجه، وكانت بريطانيا واثقة من أنّ المحيط الأطلسي سيقدم لها فرصاً لامتناهيةً وثروة مهولة. كانت تأمل في الحصول على الثروة نفس التي حازها الإسبان؛ أرضٌ مليئةٌ بالذهب والفضة، وسكانٌ محليون تستطيع استعبادهم.
لكن سرعان ما أُحبِط البريطانيون جرّاء ما اكتشفوه. لم يمتلك النصف الشمالي من الأمريكيتين القدر ذاته من المناجم الغنية بالمعادن، الذي تمتعت به القارة الجنوبية؛ إلا أنّ تُربَته كانت خصبة صالحة للزراعة. وهكذا بدأ البريطانيون بإقامة المزارع؛ فهجّروا السكان الأصليين، واستقدموا العبيد، وزرعوا التبغ والقطن والسكر، وصادوا سمك القد. سرعان ما أثبتت هذه السلع أنها مربحة للغاية، وأغنت أصحاب المزارع المستعمرين والتجار في بريطانيا، وأصبحت مصدر تمويلٍ لإمبراطوريةٍ تشق طريقها نحو العظمة والمجد. اعتقدت بريطانيا أنه أصبح بإمكانها، أخيراً، الانعتاق من الأغلال الأوروبية وإيجاد أراض وأسواق جديدة.
بدا المستقبل واعداً بفرص لا متناهية؛ لكنها لم تدم طويلاً. صعدت الإمبراطورية البريطانية وانحسرت، ورغم أهمية العلاقات الأطلسية الناشئة، فقد ظلت منطقة البحر المتوسط في غاية الأهمية للميزان التجاري البريطاني، وضمان سير تبادلاتها التجارية العالمية.
حتى في أوج توسعها الإمبريالي، ظل الولوج إلى الأسواق الأوروبية والاستفادة منها - باعتبارها مصادر للواردات ومستهلِكاً رئيساً للصادرات البريطانية - ضرورياً للمملكة المتحدة. وسرعان ما أصبحت بريطانيا واحدةً من أهم الأسواق على مستوى العالم، عندما كانت تعيد تصدير المنتجات الأميركية في جميع أنحاء القارة الأوروبية وخارجها. لكن، مجدّداً، اعتمد ميزانها التجاري على القارة، ولم تكن التجارة غير الأوروبية مربحة إلا بسبب الطلب الأوروبي على منتجاتها.
كانت إسبانيا على سبيل المثال، شريكاً تجارياً بالغ الأهمية طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر. احتاجت بريطانيا الولوج إلى الأسواق الإمبريالية الإسبانية ذات الأهمية الحيوية لتطوير اقتصادها المزدهر في الداخل. كانت إسبانيا بمثابة جسر لنقل الذهب والفضة والأصباغ الأميركية إلى شمال أوروبا، نظير سمك القدّ الأطلسي والأدوات والمعدات التي كانت بريطانيا تحتاجها لبناء مستعمراتها. في غضون ذلك، دخلت الفاكهة المتوسطية الجزر البريطانية، إلى جانب زيت الزيتون والزبيب الأيوني والتوابل الشامية.
وفقاً لبحثي الأرشيفي لأجل كتابٍ أكتبه عن تلك الفترة، كان للبريطانيين شهيّة نهمة لمنتجات منطقة البحر المتوسط، وكانت الأسواق العالمية الجديدة جزءاً من نظامٍ ساعد بريطانيا على موازنة تجارتها مع أوروبا.
في النهاية، كانت القارة الأوروبية هي من جعل التبادلات العالمية البريطانية مجديةً بحق، وهي أيضاً من جعل تجارة أميركا الشمالية مربحة. وعلى الرغم من التركيز المنصبّ على منطقة المحيط الأطلسي، حافظت منطقة البحر المتوسط على أهميتها، ممثِّلةً حوالي نصف الواردات والصادرات البريطانية.
والآن، كما من قبل، تهدف بريطانيا إلى تنشيط علاقاتها مع العالم، بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، وتتطلع إلى إبرام الصفقات التجارية مع الولايات المتحدة والهند والصين واليابان وأستراليا. ولا شك أنها تعتقد بأنّ كل هذه الدول تنتظر الفرصة لإعادة إحياء روابطها التجارية القديمة. ربما يكون الأمر كذلك؛ لكن قواعد النظام الدولي تغيرت. ففي الحقبة الاستعمارية، استفادت بريطانيا من استغلال العبيد والممارسات التجارية غير العادلة.
ثم هناك مشكلة السلع التي ستصدّرها بريطانيا لهذه الدول؛ فقسم كبير مما تصنّعه المملكة المتحدة وتصدّره من منتجات، قائمٌ على سلاسل توريد السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي. وكما كان الحال سابقاً، لن تجد بريطانيا مفراً من الاعتماد على جيرانها، وأكبر شريك تجاري لها في الوقت الحالي.
لا شك أنّ اكتشاف أراضٍ وطرقٍ تجارية جديدة في القرن السادس عشر، عاد على بريطانيا بفوائد جمة، لكن نجاح هذه التجارة اعتمد بالأساس على قدرة بريطانيا آنذاك على التجارة بهذه المنتجات مع دول القارة الأوروبية.
من نافلة القول، إننا نعيش الآن في زمن مختلف، تغير فيه شكل السلع (والخدمات) التي يُتاجر بها. ولذا ينبغي على بريطانيا أن تتعلم من تاريخها عندما كانت تعتمد على بقية أوروبا في تجارتها العالمية الناجحة، وتدرك أنها لم تستطع يوماً الانعتاق من القارة، رغم محاولاتها المتكررة.
© The Independent