لو عاشت الكاتبة الإنجليزية فيليس دوروثي جيمس، المعروفة في العالم باسمها المختصر ف.د. جيمس، ستة أعوام أخرى بدلاً من أن ترحل في عام 2014، لاحتفلت هذا العام بعيدها المئوي الأول. ليس هذا فقط، بل لفوجئت بالكثير مما توقعته في واحدة من أقوى رواياتها وأكثرها ابتعاداً عن الصنف البوليسي الذي اشتهرت به، ونعني "أبناء الإنسان"، يتحقق وبأسرع مما كانت توقعته يوم كتبت الرواية في عام 1992.
فهذه الرواية التي تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"أدب الكوارث الاستباقي" تدور أحداثها عام 2021، وتتحدث تحديداً عن جملة من الكوارث والقضايا التي تعيشها الإنسانية ليس اليوم فقط، مثل هذا الوباء المنتشر عالمياً مبيداً مئات الألوف دون اعتبار لأي حدود بين الدول والقارات والأديان والطبقات، بل كذلك ومنذ سنوات عن أمور شائكة مثل قضية المهاجرين إلى النعيم الأوروبي المجابَهين بكل أصناف العنصرية والكراهية في أمم وصلت إلى أقصى درجات الغنى في الوقت الذي تعاني فيه من تناقص مريع في الإنجاب. ويمكننا أن نقول حتى عن هذه المسألة الأخيرة إنها لم تتفاقم بشكل بات يهدد التوازنات العالمية الهشة إلا بعد سنوات من صدور الرواية. ما يعني في هذا السياق كذلك أن "أبناء الإنسان" رواية استباقية كذلك، ليس فقط في حديثها المرعب عن الوباء المعمّم الذي يكاد يقضي على الإنسانية، لولا البحث عن أمل وحيد.
والحقيقة أن هذه الـ"لولا" هي عصب الرواية وموضوعها كما سوف نرى بعد سطور. قبل ذلك لا بد من وقفة عند الفيلم الذي حققه المكسيكي الفونسو كوارون في واحدة من إطلالاته السينمائية المميزة على السينما العالمية عبر اقتباسه الرواية ذاتها، جاعلاً البطولة لكليف أوين وجوليان مور، محققاً لفيلمه هذا العديد من جوائز الأوسكار وغير الأوسكار.
فالحال أن ما يجدر بنا ملاحظته بصدد هذا الفيلم الذي حقق وعرض في عام 2006 وكانت الكاتبة لا تزال على قيد الحياة وفي كامل وعيها، هو أنه نقل أحداث الفيلم من عام 2021 الى عام 2927 لمجرد أنه رأى كما يبدو أن التاريخ الذي حددته الكاتبة أقرب مما يجب، فدفعه بعض الشيء إلى الأمام. ولو كنا مكانه لندمنا اليوم على ذلك، إذ حتى عام 2021 يبدو اليوم وعلى ضوء ما يحدث حقاً في الواقع، بعيداً ومستقبلياً أكثر مما ينبغي، بيد أن هذا ليس جوهر الموضوع.
فالمهم هنا أننا أمام رواية، ومن بعد ذلك أمام فيلم، أقل ما يمكن أن يقال عنها الآن أنها راهنة، لا سيما فيما يتعلق بالموضوعين الرئيسيين اللتين تتحرك من حولهما: الهجرة والوباء الممهد لفناء البشرية. وهنا حان الوقت لنعود إلى كلمة لولا التي قطعنا حديثنا عندها قبل سطور. وهي تتعلق ببطل الرواية التي تحكى لنا حيناً من طريق الراوي وحينا بضمير الغائب، ولكن في الحالين من خلال العودة إلى يوميات دوّنها بروفسور في جامعة أوكسفورد منذ عامي 1994 و1995 تتعلق بنفاد كل المخزون الذي كان متوافراً من السائل المنوي الذكوري في وقت لم يعد الذكور قادرين على الإخصاب ما يعني أن البشرية مقبلة على الفناء تماما، إن لو يوجد حل للأمر. وفي انتظار ذلك يحدث في إنجلترا أن أبناء الجيل الأخير وُلد ليجد نفسه يُعامل بقدر كبير من الدلال والكياسة وكما يكتب البروفسور ثيو في مدوناته خوفاً على البشرية لا حباً فيها. وهذا ما ينقلنا أول الأمر إلى عام 2005 حيث نُخبَر بأن ثمة الآن طاغية غاية في الثراء تمكن من السيطرة على الحكم في إنجلترا، من طريق الديمقراطية طبعاً، ولكن في بيئة لم تعد تهتم بالسياسة على الإطلاق، حتى ولو كانت تسخر من صفة "مجتمع المساواة" التي تطلق على المجتمع الطغياني الجديد.
موت آخر البشر
لاحقا في يوم خريفي من عام 2021 تنقل الصحف نبأً كارثياً: لقد مات الفتى ذو الثمانية عشرة عاماً، الذي كان آخر المواليد في إنجلترا كما في العالم. لكن النبأ لا يثير اهتماماً كبيراً ولا حتى لدى البروفسور ثيو فارون، الذي بعدما كان مستشاراً للحاكم ولمجلس الرئاسة الذي يدير البلد على نحو يذكّرنا إلى حد كبير بالطريقة التي يدار بها البلد في رواية جورج أورويل "1984" مع إشارات واضحة إلى أن الفوضى التي تعيشها إنجلترا اليوم هي فوضى عالمية، من الواضح أن لا برء منها، نجده الآن يندفع إلى محاولة النأي بنفسه، لا سيما بعد أن حدث له قبل سنوات أن فقد ابنه الشاب بداء الإنفلونزا الذي تحول إلى وباء وقضى على كثر من الناس وها هو يعود الآن مهدداً من جديد في تضافره مع العجز عن الإنجاب بشريه نهاية العالم.
وفيما تكون الأوضاع على تلك الشاكلة تتصل بثيو امرأته السابقة جوليا التي سرعان ما سنعرف أنها تعمل وتناضل مع جمعية سرية تحاول التصدي للكوارث بشكل أو بآخر. وتطلب جوليا من ثيو أن يصطحب صبية غامضة عبر العديد من المناطق الإنجليزية. في البداية يرفض ثيو ذلك. فالأمور ليست واضحة بالنسبة إليه كما أنه لا يميل إلى النضال ويشتمّ في ما تطلبه منه جوليا رائحة نضال ما. ناهيك بأنه هو نفسه بات يائساً من كل شيء وسط إنسانية فقدت كل أمل. فما الذي جاءت هذه الصبية السوداء البائسة تفعله في حياته؟ هنا تفسر له جوليا الأمر، إن هذه المهاجرة باتت الأمل الوحيد للبشرية التي ستفنى لولاها. فهي حامل و"حامل حتى بطريقة تقرب لأن تكون عجائبية"، وهنا كي لا ننسى أن الطفل الذي تحمله سيكون مثلها من شعب المهاجرين يجب إخفاء المرأة بعيداً عما يهدد الأم والطفل بالإبادة من قبل عصابات الفاشيين الذين يناضلون ضد الهجرة القادمة من جوع الأرض لتدنس بلادهم. ولذا لا بد من أن يتعاون ثيو في تهريب الفتاة إلى حيث يمكنها أن تضع الطفل الذي يُعقد عليه الأمل لبقاء الإنسانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نهاية سعيدة؟ ربما
طبعا لن نكشف بقية الأحداث وكيف ستجري ولكننا سنؤكد أنها كما جرت العادة في مثل هذا النوع من الحكايات، ستجري كما يجب، بعد سلسلة من المطاردات واللقاءات والتهديدات. وسينتهي الأمر بالمهاجرة الى إنجاب طفلها الذي من الواضح أنه سيحمل الخلاص إلى تلك البشرية المعذبة والمهدَّدة.
وحتى ولو أن الأحداث المتبقية ستكون أكثر امتلاء بالمغامرات الغريبة بل حتى غير القابلة للتصديق إلى درجة أن المخرج حين اقتبس الرواية وجد نفسه وهو السينمائي المنطقي عادة، رغم إقدامه على إخراج أحد أفلام "هاري بوتر"، يخفف من العناصر البعيدة عن المنطق ليركز على الأبعاد الأساسية في الرواية وهي الأبعاد السياسية التي دنت بشكل دقيق من أحوال العالم كما باتت منذ بدايات القرن الجديد على الأقل.
أما بالنسبة إلى ف.د. جيمس، المولودة في عام 1920، التي تعتبر واحدة من أنجح وريثات مواطنتها الكاتبة أغاثا كريستي في مجال رواية التشويق، فإنها تعتبر الكاتبة الإنجليزية الأكثر مقروئية في العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين على الأقل حيث يلاحَظ دائما وجود رواية أو روايتين لها في لوائح الكتب الأكثر مبيعاً من طوكيو إلى لوس أنجلوس، ومن سيول إلى ميونيخ. وقد كتبت غالباً في مجال الأدب البوليسي سائرة على خطى سلفتها الكبيرة مبتكرة شخصية المحقق آدم داغليش على غرار هركيول بوارو. وظلت تكتب طوال ما يقارب الستين عاماً دون توقف حتى أن كتبها الأخيرة صدرت قبل سنتين أو ثلاث من رحيلها، ولا تزال كتبها تطبع بملايين النسخ مترجمة إلى أكثر من دزينتين من اللغات.