ملخص
أوقفت السلطات الجزائرية الكاتب والروائي بوعلام صنصال الذي عرف بمواقفه المعارضة في الجزائر وبمواقفه المناهضة للأصولية الدينية والتطرف. وتعالت الأصوات الداعية إلى الإفراج عنه، لا سيما في فرنسا التي يحمل جنسيتها، بينما هاجمت وكالة الأنباء الرسمية في الجزائر الحكومة الفرنسية على الحملة التي تقودها للإفراج عنه، واصفة إياه بـ"دمية التيار التحريفي المعادي للجزائر"، معتبرة كتاباته مسيئة لثورة التحرير الجزائرية.
كان بوعلام صنصال أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية والأدبية العربية عندما قبل زيارة إسرائيل والمشاركة في مؤتمر الكتاب العالميين الذي عقد في القدس المحتلة عام 2000 بدعوة من إحدى الهيئات الأدبية الإسرائيلية. فمن هو بوعلام صنصال؟ وما آخر إصداراته؟ ولماذا اعتقل إثر وصوله إلى مطار العاصمة الجزائرية قادماً من باريس؟
يرجح المتابعون أن توقيف الروائي جاء رداً على تصريحاته المتعلقة بتاريخ الجزائر وعلاقاتها مع المغرب وتناغمه مع الفرنسيين. وكانت آخر إصداراته كتاباً معنوناً بـ"لنتحدث عن اللغة الفرنسية!" (سيرف، 2024) الذي دافع فيه عن اللغة الفرنسية. فما الذي تمثله اللغة الفرنسية لهذا الكاتب العربي الجزائري الفرنكوفوني المولود في ثنية الأحد بولاية تيسمسيلت في الغرب الجزائري عام 1949؟ هل هي "غنيمة حرب"، وفق ما وصفها صاحب "نجمة" الروائي الجزائري كاتب ياسين، "أداة" يمتلك ناصيتها، يستخدمها للتعبير عن ثورته على الاستعمار، "فيستغلها كما يشاء ويتصرف بها بما تقتضيه هويته وثقافته"؟ هل الدفاع عنها معركة خاسرة أم انتصار كبير؟ ماذا فعل الفرنسيون بلغتهم؟ وهل الفرنسية لغة مرتبطة بعرق وبلد معين؟ أم هي ملك البشرية جمعاء؟ هل هي لغة المستعمر أم لغة الحرية وقيم الثورة الفرنسية وفكر عصر الأنوار؟ وكيف يمكن إنقاذها بينما تتعرض لخطر الانحدار؟ وهل الحل في إحياء الحكايات والأساطير والأفكار التي شكلت روحها؟ وما موقفه من اللغة العربية، لغته الأم؟ ولماذا لم يدافع عنها؟
يبدأ كتاب بوعلام صنصال من ملاحظته أنه في زمن هيمنة "الغلوبش"، أي التواصل باللغة "الإنجليزية الدولية المبسطة"، والتي لا تتعدى مفرداتها 1500 كلمة، تراجعت اللغة الفرنسية ليس فقط على مستوى الناطقين بها خارج فرنسا، بل في فرنسا نفسها، الذي يعاني جيلها الجديد ضعفاً في تملك لغته الأم، وسط هيمنة الشبكة المعلوماتية الأنغلوفونية على حياة التلاميذ والطلاب واعتماد الإنترنت كمرجع أساس في كل شيء. لذا بحسب تعبيره، كان لا بد من كتابه هذا لإطلاق نداء تحذيري الذي هو في الوقت عينه نداء حب للغة موليير، لغة العلوم والدبلوماسية والثقافة والأدب.
يتخذ الكتاب صورة حوار بين أستاذ مسن وتلميذه الصحافي القلق في شأن ما يجري في فرنسا، ويتأملان في التاريخ وحالة اللغة الفرنسية ودورها في تشكل الثقافة والهوية الوطنية، وكذلك الطرق الممكنة لحماية ثرائها من تأثيرات العولمة والهجرة. فتتخذ الإجابة عن مجمل أسئلتهما صورة تحقيق، لا بل صورة رحلة استقصائية تبحث في مصير اللغة الفرنسية وارتباطها بتاريخ ثقافي عريق وبهوية فكرية مميزة.
بين لغتين
يطرح نص صنصال دوماً عديداً من الأسئلة، وفيه يدافع عن لغة شكلت نافذته على العالم بوصفها لغة قادرة على أن تعطي للناطق بها مجالاً للحلم والتعبير أكثر من اللغة العربية التي قتلها في رأيه التقديس وكبلتها السياسة وأسرتها الأيديولوجيات، منتقداً هيمنة الكلام الجاهز والتفاهات، داعياً إلى إعادة إحياء الفرنكوفونية القادرة في رأيه أن تعيد إلهام العالم في زمن العولمة القبيح، بعيداً من مفهوم الكولونيالية.
ولعل الفرنسية ملزمة بذلك مثلها مثل لغات أخرى، علماً أن الدفاع عنها يعتبر اليوم معركة قديمة خاسرة، وذلك أن الفرنسي العادي سيضحك حتماً إن عبر أحدنا أمامه عن قلقه في شأن مصير لغته الأم. ولعله سيرد على سؤالنا بفرنسية مطعمة بكلمات إنجليزية، مثله مثل بعض السياسيين الفرنسيين. مع ذلك، يقول لنا صنصال إن الشعب الذي يفقد لغته يفقد روحه، وإن البلدان التي لا تحافظ على لغتها لا مستقبل لها. فكيف ستكون الحال مع اللغة الفرنسية التي كانت لفترة طويلة لغة انتشرت في كل أنحاء العالم؟ وما رأيه أيضاً في اللغة العربية التي هي روح الجزائر وسائر العالم العربي؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كتابه هذا يشدد صنصال إذا على الدور السلبي للجغرافيا السياسية ولقيام الاتحاد الأوروبي والعولمة الاقتصادية والثقافية والهجرة المتزايدة في تراجع اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات، قائلاً لنا إن الفرنسي لم يعد يشعر اليوم بأنه فرنسي تماماً، أو حتى أوروبي. ففي زمن التجانس العالمي أصبحت جميع اللغات وطرائق العيش في مأزق. ذلك أن كل الشعوب تحاول العيش كالأميركيين، متحدثاً عن استعمار عقلي جديد مؤلم للغاية ولو اطمأن البعض إلى أن اللغة الفرنسية لا تزال اللغة الخامسة الأكثر تحدثاً في العالم، لكن شعلة الفرنكوفونية الخافتة هي التي دفعت بوعلام صنصال إلى التفكير العميق في إشكاليات فلسفية طرحت مسألة علاقة اللغة في تجسيد التاريخ وتحديد الثقافة وتشكل الهوية والسيادة، مقترحاً بعض الحلول لإنقاذها، منتقداً عيش فرنسا في أمجاد ماضيها. فهي لم تعد فرنسا التنوير ولا فرنسا الـ30 المجيدة، لا بل هي دولة تواجه اليوم عملية تفكيك لحضارتها وإرثها الثقافي واللغوي. ولعله يقارن بصورة مقلقة بين وضع فرنسا الحالي والوضع في الجزائر قبل الحرب الأهلية في التسعينيات، قائلاً إن اللغة أفضل سلاح لوقف الانحدار الفكري والثقافي. المسألة في رأي بوعلام صنصال هي إذا مسألة إرادة، مذكراً إيانا بقول نيتشه، "حيثما تنعدم إرادة القوة يحدث الانحدار".
لا شك أن فرنسا اليوم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تغيير جذري في سياستها وعلاقتها مع الشعوب الناطقة كلياً أو جزئياً بلغتها، والانتقال من سياستها كدولة استعمارية قديمة إلى دولة تعترف بالتعدد الثقافي واللغوي والانفتاح على الآخر، ذلك أن مصطلح الفرنكوفونية لم يعد دالاً على مجموع المستعمرات الفرنسية الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية، مما جعله يحمل كل معاني الهيمنة الثقافية والسياسية. التحدي اليوم يكمن في جعل الفرنكوفونية مرادفاً لنمط تفكير وسلوك حياة، قبل أن يكون انتظاماً في نموذج سياسي أو في كيان جغرافي. اللغة الفرنسية قد أصبحت في عرف صنصال كياناً يتحرك فيه الإنسان ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني، ومكاناً للتلاقي بين البشر ولتبادل المعلومات وتناقل المعرفة وتقاسم الثقافة. وهذا في رأيه كافٍ للدفاع عن هذه اللغة وحضارتها.
"لنتحدث عن اللغة الفرنسية!" كتاب مثير للجدل مثله مثل مواقف كاتبه، يدعو قراءه إلى التفكير ملياً في مسائل اللغة والتواصل والفكر والتاريخ والهوية التي تطرح بثقلها في زمن الانعطافات التاريخية المصيرية.