على الرغم من النجاح الباهر الذي حققته بعض المؤسسات الثقافية المغربية تجارياً، على مستوى تعاطيها وتفاعلها مع مفهوم الثقافة، إلاّ أن هذه الأخيرة، لاتزال على صورتها الأثيرة، منذ مطالع الألفية الجديدة، وتبدو وكأنها مصابة بانحسار إبداعيّ ومفاهيميّ، يجعل صورتها منهكة ومتصدعة في بنائها ومنطلقاتها المعرفية، و لا تُساير ساحة النشر العالمية والتبادلات المفاهيمية التي شهدتها المنظومة المعرفية، منذ الغزو الكاسح للأنظمة والأنساق البصرية للخطاب، وما مارسته عليه من سحر وتغيّر على مستوى موضوعاته وأشكاله وأساليبه التعبيرية. وهذا الأمر، انعكس على طبيعة نمط تفكير المثقف المغربي، الذي لم يستسغ طبيعة هذا التغيّر،الذي يُحثم عليه تنويع ثقافته والخروج من بوثقة النسقية والاختصاص الضيق ليس للتفكير في قضايا أخرى خارجة عن مجال اشتغاله، وإنما من أجل التزود ببعض المعارف الجديدة التي تتصل بالتشكيل والفوتوغرافيا والسينما والموسيقى، لإضاءة معالم تخصصه وضخ دماء جديدة في شرايينه، وما تستطيع هذه الأنساق البصرية، أن تلعبه من دور كبير في تنمية النصّ والتأثير عامة على صناعة الفكر، من دون أن ننسى ضرورة أرشفة هذه الثقافة المغربية إلكترونياً وجعلها قابلة للتداول بين الناس داخل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
لعل تقريب هذه الثقافة إلى الجماهير الهلامية، من شأنه أن يكسر صورة الترفيه والاستهلاك، التي تطبع هذه الثقافة اليوم، وهذا الأمر، لم تستوعبه المؤسسات الثقافية والفنية داخل المغرب، منذ سنوات، ما انعكس سلباً في فترة الحجر الصحي على طبيعة عمل هذه المؤسسات، التي يجد المثقف المغربي، ان لا دور تلعبه، فلا مكتبات ولا دور نشر مغربية، أتاحت لقرائها إمكانية الإطلاع على بعض المراجع والدراسات في مجالات مُتنوعة من الأدب والتاريخ والسويولوجيا والفكر عموماً، ولا المتاحف سخرت نفسها لإقامة بعض المعارض الإفتراضية من معروضاتها وإقامة بعض الندوات الفكرية عن دور المتاحف الافتراضية أمام الطوفان البصري الذي اجتاح العالم، بغية التخفيف من حدة يوميات الألم والخوف والترقب والإنتظار، الذي يطبع يوميات الحجر الصحي داخل المغرب.
برنامج سينمائي
كان "المركز السينمائي المغربي" سباقاً بين جميع هذه المؤسسات الثقافية ، على وضع برنامج سينمائي، منذ بداية الحجر في 16 مارس (آذار) من خلال توفير روابط أفلام سينمائية مغربية قديمة وحديثة، وما تزال حتى الآن تُعرض بانتظام وتخلق سجالاً صحافياً ونقدياً داخل وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن ذلك غير كافٍ بالنسبة لبلد مثل المغرب، وما يتوفر عليه من متاحف كثيرة، كان من اللازم أن تشتغل هذه المتاحف على إقامة معارض افتراضية، كما هو الشأن في بعض الدول العربية والعالمية، التي عملت على تسخير أرشيفها الإلكتروني في خدمة المواطنين للاستمتاع به ومشاهدته. وقد تكون فرصة كبيرة لهؤلاء لمعاينة هذه الأعمال، التي غالباً ما تكون طبيعة الحياة اليومية الرتيبة في العمل تمنع هؤلاء الناس من زيارة المعارض التشكيلية والمتاحف الإثنوغرافية والحضور إلى الندوات الفنية والعروض المفتوحة، التي تُقيمها بعض الغالريهات على هامش معرض جماعي أو فردي استعادي لبعض التجارب الفنية التشكيلية العربية الرائدة. وهذا ما أتاح لدى هذه الدول نوعاً من المصالحة مع تراثها الفني وتقريب أواصر الصداقة مع الفن التشكيلي، الذي لايزال "نخبوياً" بحكم عدم خروجه من المتحف. وهذا الأمر، انعكس سلباً على قيمة هذا الفن "النخبوي" الفريد، وجعل الناس تنفر منه لسبب يتيم وهو الغموض الذي يخيّم عليه، فضلاً عن ابتعاده من يوميات الناس داخل فضاءاتهم العمومية. لذلك فإن هذا الأرشيف الإلكتروني المُصور، قد يكسر من نمطية هذا النفور المُبهم، لكن المؤسسات الفنية المغربية، لم تستغل هذه الفرصة في فترة الحجر الصحي للتعريف بمنوتجها الفني ومحاولة تقاسم معارفه مع باقي المواطنين داخل المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي،
هذا في الوقت الذي دعت فيه "المؤسسة الوطنية للمتاحف" منذ شهر مارس، كافة المواطنين إلى زيارة موقعها من أجل مشاهدة معرض بيكاسو، الذي أقيم قبل سنوات، وتمت إعادة عرضه افتراضياً في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، عبر تقنية 360 درجة التي باتت تحظى بها جملة من المتاحف الغربية للعرض وتقديم الأعمال الفنية بصُورة أجمل. وقد قدم المعرض جملة من الأعمال التشكيلية والخزفية والصور في فترات دقيقة من حياة بيكاسو وعلى مراحل مُتنوعة من تجربته الفنية. وقد اندرجت هذه المبادرة وفق ما سمته مؤسسة المتاحف ب "المتحف في البيت". غير أن هذه المباردات ، لم تشمل كل المتاحف الصغيرة الكثيرة المنتشرة على خريطة مدن المغرب، بل ظلت مقتصرة على متحف "محمد السادس للفن الحديث والمعاصر" بالرباط والمتحف" الوطني للنسيج والزرابي" بمراكش الذي قدم هو الآخر، بعضاً من النماذج الحرفية للزربية المغربية والحلي والخزف والفخار وغيرها من المواد ذات الصناعة المحلية.
غير أن هذه المبادرات كما سبق الذكر، لم تُعمم ولم تُرفق بندوات مباشرة ونقدية، كان من الممكن معها إعادة معها طرح سؤال تاريخ الفن المغربي وراهنه ومُستقبله، أمام هذه التحولات البصرية السريعة، التي خلخلت مفهوم الفن نفسه وجعلته أقرب إلى الوسائط الإلكترونية.
غياب النشر
أما دور النشر المغربية، فقد شكلت الحلقة الأضعف في فترة الجائحة، فهي لم تتفاعل بالشكل الذي ينبغي مع يوميات الحجر، من خلال نشر بعض الكتب أو إقامة لقاءات افتراضية مع جملة من لكتاب والشعراء والروائيين المنخرطين ضمن مشروع الدار على مستوى النشر. فهذه الجهات لم تعمل سوى على تأجيج أغلفة منشوراتها على مواقعها الإلكترونية، ما جعل عدداً من الكتاب والشعراء يعمدون إلى نشر بعض أعمالهم المتاحة إلكترونياً وتقاسمها مع شريحة أكبر من المثقفين والقراء. وبالتالي، فإن هذا الغياب المخيف، لا يشير في جوهره إلاّ إلى العطب الثقافي، الذي بات يطبع الثقافة المغربية، ويجعل مشاريعها الفكرية والشعرية والروائية تُجهض. فالعاملون في حقل هذه الثقافة، لم يسعوا إلى تسويغ المشاريع السابقة وتثمينها ونقدها وتفكيكها وإعادة بنائها من جديد، في طريقة مُستساغة لدى القارئ وتُعبر عن وجدانه ومشاغله اليومية.
لذلك ففترة الحجر لم تعمل سوى على تعرية أوهامنا وأغاليطنا تُجاه مفهوم الثقافة، التي هي في أساسها بناء للمجتمع وللأفراد، كما أنها نمط عيش مُختلف داخل الحياة وانخراط فعّال في خضم هذا المجتمع وتوجيهه ومنح شروط أفضل للعيش فيه عن طريق الحق في الفن والأدب والجمال. وهذا الأمر، المتمثل في غياب المؤسسة الفنية والثقافية من متاحف ودور نشر وأروقة ومؤسسات ثقافية ونوادي شبابية، جعل فنانين تشكيلييين مغاربة يخرجون عبر صفحات التواصل الاجتماعي للتعبير عن أنفسهم بطلاقة، وبأساليب فنية وجماليّة متواضعة ومؤثرة جداً. وهذا ما خلق نوعاً من "الحركة" الفنية داخل وسائل التواصل الاجتماعي، تلتها مُحاولات لبعض الأسماء الفنية الجديدة، في عرض جديدهم من الأعمال الفنية، مُحاولة خلق نوع من السجال الفني الهادف بين الفنانين داخل المغرب وخارجه من البلدان العربية الأخرى، التي كانت سباقة إلى هذا الفعل الثقافي.