"عبلهْ"، "أم الصُّلَيف"، "أم الصبيان" ... هكذا أنعش الشاعر إبراهيم مفتاح ذاكرته ليحكي لنا إرثاً أسطورياً يعبق بالماضي، ويستأثر بالخوف في مجتمع منطقة جازان، هذا المجتمع القديم الذي يصفه بأنه: "مجتمع بسيط كان ينحت الصخر بأظافره، وهو في حاجة إلى ما يرفّه به عن نفسه ويكسر به قسوة الحياة التي عاشها الآباء والأجداد، ومن هنا جاءت الحاجة إلى اللجوء إلى الخيال".
الأسطورةُ لم تكن محضَ حكايات عابرة ظلّ الأجداد يتوارثونها حكايةً بعد أخرى، وهلعاً بعد آخر؛ وإنما انفردت بالتأثير في الوعي الجمعيّ، من خلال حكاياتٍ أصولها تعود إلى أساطير قديمة. وقد كانت هذه الأساطير تعبيراً عن قلق الإنسان، قلقه تجاه وجوده، ومجريات حياته، وهروباً من حالة التفكير الموغل في الظواهر الطبيعية التي قد تجرفه إلى الشعور باليأس، وعدم بلوغ الفهم المطلوب، فتكون الحاجة إلى الأسطورة بمثابة الحل الأسهلِ للحصول على تفسيراتٍ مطمئنةٍ؛ فموضوعات الأسطورة لا تكاد تخرج عن حكاياتٍ تتناول بداية الخليقة، وتشكّل الآلهة القديمة، وفهم الظواهر الطبيعية. هكذا كانت الأسطورةُ على مدى التاريخ، ملاذَ الإنسان الآمنِ الذي يحميه من سراديب العدم، ويمدّه بالقوّة لمواجهةِ ما يظهر أمامه من أفكارٍ وحوادثَ.
أصدر الشاعر إبراهيم مفتاح، أخيراً روايةً جديدةً بعنوان "أم الصبيان" وهي تحمل في عنوانها أسطورةً تبثّ الرعب. يقول الكاتب عنها:
"أم الصبيان في موروثنا الأسطوريّ القديم أسطورة مخيفة في منطقة جازان بعامة، وجزر فرسان بخاصة، بل وربما جنوب الجزيرة العربية في شكل أعم. ومن المعروف بل والسائد، أنه إذا ذكر اسم أم الصبيان تجد الناس بطريقة تلقائية يقولون: "نعوذ بالله من الشيطان"، ما يدلّ على بشاعتها في المخيلة الجمعية لسكان هذه الأجزاء من الجزيرة العربية، وليس هذا الشبح الأسطوريّ هو وحده المخيف، ولكن لها مرادفات أخرى مثل "عبلهْ" و"أم الصُّلَيف" و"أم الصكاع"... إلا أن أم الصبيان هي التي تستأثر بالخوف والهلع منها".
ويبيّن مفتاح أن نسيج روايته مستمد من الموروث الأسطوريّ الشعبيّ الذي كان يسمعه من النساء الكبيرات في السنِ اللاتي كنّ يتسامرنَ على ذبالات الفوانيس ولمبات القاز.
أجفان تمتلئ بالأشباح
يفتّش الشاعر إبراهيم مفتاح في ذكرياته، قائلاً: "لقد كانت أولئك النسوة يُشعلنَ ليالي سمرِهنّ، وأشغالهنّ اليدوية الليلية في "العَتْمة"، وهي كلمة مستمدة من عتمة الليل وحلكة الظلام؛ حيث تروي كل امرأة ما تختزله ذاكرتها، ويضفي عليه مخيالها الحكائي، حتى يحين موعد مسامرتهنّ، وكنا نحن الصغار نصغي إليهنّ ولا ننام حتى تمتلئَ أجفاننا بالأشباح، وتتشبعَ ذاكراتنا بأحداث تلك الحكايات المشوّقة والمرعبةِ في الوقت نفسه".
يوضحُ "مفتاح" أن ما وردَ في الروايةِ من أشياء تنتمي إلى المعقول، وأشياء أخرى تنتمي إلى اللامعقول، ومن فنيّاتِ نسيج الخيال؛ هو بقايا من ترسبات حكائية في تلافيف الذاكرة. وبالحديث عن سياق الحبكة الروائية لـ "أم الصبيان"؛ يجد القارئ أن صبغة الأحداث هي الصبغة البحرية الناتجة من كون جزر فرسان - منشأ مؤلف الرواية - تنتمي إلى بيئة بحرية شكلت حاجزاً بين أهلها وبين الآخرين، وهذا ما يجعل مفتاح يعتقد بأن في الرواية شيئاً من الغرابة التي لا يألفها الآخرون، مشيراً إلى أن العمل الروائي الذي ينبثق من هذه التجربة، ويتخذ من الموروث الأسطوريّ للآخرين مادته، سيأتي بنكهة المكان الذي ينتمي إليه، وسيغلّفه طابعُ الحياة في تلك الأماكن.
يعتقد إبراهيم مفتاح بأن زمننا الحالي أنسب الأزمنة لتسويق هذه الأساطير المثيرة، شرط أن يصاغ هذا الموروث الأسطوريّ لأي مجتمعٍ في شكل روائيّ يتوافر فيه العمل الفنيّ الذي يتيح للمخرجين مسرحياً وسينمائياً وتلفزيونياً أن يُبرزوا فيه قدراتهم الإخراجية والفنية وصولاً إلى العالمية التي لا يعرف الآخرون شبيهاً لها.
وفي جازان يُلاحظ أن معظم الأساطير المتداولة تنتهي بأحداث سعيدة، وهذا ما يفسر الحالة النفسية الصعبة التي يرزح تحتها المستمعون إلى هذه الأساطير ورواتها؛ حيث يستنفر الراوي - الذي غالباً ما يكون امرأة - في استنهاض مخياله الحكائي لاستحضار الأسطورة أمام أبناء القرية المتشوّقين لالتقاط هذه الحكايات بعد يوم مرهقٍ، في محاولةٍ للاندماج في عوالمها الغيبية، منغمسين في ما يطلقه الراوي من حكايات عجائبية، هرباً من قسوة الحياة المليئة بالكدّ والجهد المضاعف لكسب الرزق.
إن الحضورَ القويّ للراوي يقودنا إلى التساؤل؛ هل شفاهية الأسطورة تجعلها معرّضة للتبديل والتغيير؟
يجدر القول إن الميل إلى التفكير بتدوين الأسطورة، قد يفقدها مرونتها وجوهرها، إلا أن مهمة الراوي لم تعد تنحصر في الحكي والإلقاء فحسب، وإنما تكون هذه الأساطير عرضة للإضافة والتعديل وفقاً لمزاج الراوي وحالته النفسية؛ وهذا ما يعتقده الباحث فرانز كراتشي الذي يرى أن الإنتاج الفني يتحكّم فيه المنطق، بينما تتحكّم الآلية النفسيّة بالإنتاج الشعبي.
في جازان الأسطورة لا تنحصر عوالمها في "أم الصبيان" و "السعلية" اللتين تنحدر حكاياهما من عالم الجن والأشباح فحسب، وإنما هناك أسطورة "النباش" الذي ينبش قبر الميت ويختطفه. وعلى صعيد حضور الإنسان؛ نجد أسطورة "الخضر" و "أبو زيد الهلالي"، وعلى مستوى الطيور فـ "البومة" نذير شؤم متى ما دخلت إلى البيت، وغيرها.
لكن يظلّ التساؤل المطروح حول تشكّل هذه الأساطير في منطقة جازان، وسرّ الكمّ الهائل الذي تزخر به؛ يتحدث عنهما مدير جمعية الثقافة والفنون بجازان سابقاً عبد الرحمن موكلي قائلاً: "جازان من أهم المناطق الحضارية في شبه الجزيرة العربية، ولها تاريخ يمتد لآلاف السنين، وتعتبر الزراعة هي الأساس لحضور الإنسان وتقدمه الحضاري، نظراً إلى خصوبة الأرض وتوافر المياه".
المجتمعات الزراعية ركيزة الأساطير
يؤكد الكاتب عبد الرحمن الموكلي أن المجتمعات الزراعية تمثل الركيزة الأساسية للأساطير؛ نظراً لارتباط الزراعة بحركة الكواكب (الشمس والقمر والنجوم)، وتأثيرها في المطر والسيل ومواسم الزراعة، معتقداً بأن ذلك جعل الناس ترى أن لهذه الكواكب تدخلاً أساسياً في حياتهم، وصولاً إلى عبادة الشمس والقمر والزهرة، وبناء المعابد، وهكذا مع مرور الزمن تحوّل الفعل التعبّديّ إلى فعل أسطوريّ. ويضيف قائلاً: "لقد خرجت أساطير من الشمس، والقمر، والزهرة، وكيفية استدرار المطر، والحرث، والفداء. فعلى سبيل المثل، كان إذا توقّف المطر، يشعلون النيران على ظهور الثيران، وكان إذا خُسف القمر، يوقدون النار في البيوت؛ حتى يهتدي القمر باعتباره ضلّ طريقه، وكانوا يسمون قوس قزح "كوز أبو عنتره"، فإذا ظهر في الأفق فهو دلالة نهاية العشايا، وعدم سقوط المطر".
أحمد هروبي باحث دكتوراه في الأدب والنقد؛ يعتقد بأن الحديث عن الأسطورة يقتضي ابتداءً مقاربة مفهوم الأسطورة، مفترضاً بأنها "حكاية تقليدية تروي وقائع حدثت في بداية الزمان، وتهدف إلى تأسيس أعمال البشر الطقوسية حاضراً، وبصفة عامة إلى تأسيس جميع أشكال الفعل والفكر، التي بواسطتها يحدد الإنسان موقعه من العالم".
تنوّع غير مستغرب
ويعلّل الهروبي كثرة الأساطير وتنوّعها في منطقة جازان بطبيعة موقعها الجغرافي، وثرائها المعرفي، إضافة إلى طبيعة تكوينها السوسيولوجي المنفتح على أكثر من قارة، ويوضح: "هناك من الأساطير ما يعجز الباحث عن معرفتها، ومنها ما تغيرت بفعل التبدّلات المجتمعية؛ فأخذُ نسقٍ مضمرٍ، قد يحتاج إلى عمليات حفرٍ وربطٍ معرفيٍ للكشف عن جذور تلك الأساطير التي تتسلل إلى البنية المجتمعية بفعل تأثير القصص. وقد يصيبها التغيير وفقاً لمتغيرات الحياة، أو تعاود تشكيل نفسها لتبدو مقبولةً في واقع جديدٍ يتطلّب تعديلاتٍ جديدةً على بنيتها".
لطالما تنوّعت مقاربات الأسطورة وتعريفاتها، لكن الدور الأكبر الذي مارسته هو أنها كانت شماعةً للوجود. فكل الثقافات اتخذت منها وسيلة للفهم، والحيلولة دون الرزوح في منطقة رماديةٍ من الأفكار. وعلى الرغم من تباين الثقافات، إلا أن الموضوعات التي تتناولها الأسطورة متشابهةٌ في الجوهر، وإن اختلفت التفاصيل، وهكذا امتد تأثير الأسطورة على الواقع. لكن مع انتشار الأديان انحسر تأثيرها القيميّ في شكل واضح، ذلك أن الناس بدأوا يكتشفون مبادئ الخير والشر والعدالة وغيرها، من منظورٍ دينيّ عقلانيّ مغايرٍ عن المنظور الحكائي الخيالي الذي تأتي به الأسطورة. ولم يقف الأمر عند ذلك فقط، إذ توالت العلوم التطبيقية لتحتل الساحة بفهمها التجريبيّ المنطقيّ للظواهر الطبيعية.
لقد أدت هذه التحولّات إلى تمظهرِ الأسطورةِ في طقوسٍ احتفاليةٍ من دون أن تستطيعَ تناولَ الجوانب المعرفية، ومن يحاول الآن استكناه الحقيقةِ من خلالها سيوصمُ مباشرة بأنه مروّج للخرافة، ذلك أن الغاية التي دعت الناس إلى تناقل الأسطورة تتمحورُ في حاجة الإنسان إلى الثباتِ والاستقرارِ النفسيّ، ولا تنصبّ في شكل مباشرٍ على تعليل الواقع وفهمه.