لولا تلاقي مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، المتعلقة بالوضع اللبناني المأزوم اقتصادياً وسياسياً، لما كان ملف التهريب من وإلى سوريا الذي فتح بقوة بالتوازي مع انكشاف العديد من الفضائح التي يضج بها الفضاء السياسي اللبناني وتسبب بسجالات واحتقان بين الفرقاء، ولكان جرى التعامل معه على أنه واحد من الملفات المحالة على القضاء التي يتراشق الفرقاء بالاتهامات بفعل إثارتها.
ويمكن تعداد هذه العوامل كالآتي: اكتشاف فلتان المعابر الحدودية مع سوريا ليس فقط لتهريب البضائع منها إلى لبنان، بل لتهريب مادتي المازوت والطحين المدعومتين من مصرف لبنان المركزي إلى سوريا، اجتماع مجلس الأمن في نيويورك لمناقشة تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش نصف السنوي حول تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1559 الصادر عام 2004 والذي ينص بين ما ينص عليه، على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، صدور بيان عن مجموعة الدعم الدولية للبنان يتناول أزمته الاقتصادية، بدء جلسة التفاوض الرسمية الأولى بين لبنان وصندوق النقد الدولي بتقنية الفيديو عن بعد، اجتماع المجلس الأعلى للدفاع لاتخاذ قرارات لمكافحة التهريب على الحدود، وأخيراً إلقاء الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله كلمة تناول فيها الوضع في سوريا والعلاقة معها، مؤكداً انتصار نظامها ومطالباً الحكومة اللبنانية بالانفتاح عليها لوقف التهريب على المعابر ومعالجة الأزمة الاقتصادية بالتصدير إلى العراق عبر أراضيها. وكل هذه العوامل تجمعت في يوم واحد، الأربعاء 13 مايو (أيار).
وقائع التهريب والخسائر اللبنانية
ضجت شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي منذ مطلع الأسبوع بصور وفيديوهات عن الشاحنات المحملة بأكياس الطحين والصهاريج المحملة بالمازوت من لبنان إلى سوريا. ومع أن هذا لم يكن جديداً وكان يحصل طوال العام الماضي، حيث كانت دمشق تتكل على نفوذ حلفائها في لبنان وفي الطليعة "حزب الله" للإفادة من السوق اللبنانية من أجل الالتفاف على العقوبات الأميركية ضد النظام من أجل استيراد مواد إستراتيجية ولا سيما المحروقات عبر مرفأ بيروت ليتم بعدها تهريب جزء من البضاعة المستوردة من تجار وشركات لبنانية إلى الأراضي السورية.
هكذا، عوّض النظام عن نقص مواد أساسية شحت في السوق السورية، خصوصاً أن تزويد إيران هذه المناطق بالمحروقات في مواجهة العقوبات تراجع بدوره بفعل العقوبات على قطاعها النفطي. وحتى حين كانت طهران تهرب ما تحتاجه دمشق عبر العراق، كانت الصهاريج التي تنقل البضاعة تتعرض أحياناً لقصف الطائرات المسيرة على معبر البوكمال، الذي يراقبه الأميركيون من قاعدتهم القريبة.
كان بعض الفرقاء اللبنانيين يثيرون هذا النوع من التهريب إلى الداخل السوري، من دون أن يتسبب بالضجة التي أثارها هذه المرة لسبب مالي، وليس سياسياً. فأحد أوجه الشح الذي عانى منه لبنان في احتياطه بالعملة الصعبة منذ الصيف الماضي، هو الخلل الفادح في ميزان المدفوعات لأن كلفة استيراد العديد من المواد فاق حاجة السوق اللبنانية بما يقارب الضعف في بعض السلع. أسهم ذلك في استنزاف كمية من العملة الصعبة، لأن جزءاً من البضائع المدفوع ثمنها بالدولار كان يعود بالليرة اللبنانية، وقيل في ذلك أن البلد يموّل اقتصادَين.
ومع انكشاف الخسائر المالية للمصارف ومصرف لبنان المركزي وتقنين سحوبات المودعين لمدخراتهم ومنع التحويلات إلى الخارج لحفظ ما تبقى من دولارات (قدّرت بـ3 مليارات يستطيع مصرف لبنان التصرف بها) الذي حد من الاستيراد، خيم شبح النقص في مواد رئيسة. وتضررت سوريا من تقنين الاستيراد. ابتدع المصرف المركزي آلية للتعويض عن انهيار سعر صرف الليرة بتأمين 85 في المئة من مبالغ الاستيراد لسلع أساسية بينها المحروقات والطحين، بالسعر الرسمي للدولار، تجنباً للنقص بهذه المواد في الأسواق.
المفاوضات مع صندوق النقد
لكن الحاجة السورية الملحة لهذه المواد أعادت التهريب على قدم وساق، ليجدد استنزاف ما تبقى من دولارات في ظل الأزمة المالية الحادة، ما أدى إلى رفع الصوت من العديد من القوى السياسية خلافاً للحالات السابقة على هذه الأزمة حين كان المتعارف عليه أن التهريب فوق المستوى التقليدي الذي كان يحصل من مافيات تجارية بين البلدين على مر العقود عبر مناطق الشمال والبقاع، يتمتع بحماية سياسية من "حزب الله" الذي يبقي على معابر مفتوحة في شرق البلاد من أجل انتقال مقاتليه وأعتدتهم العسكرية بين البلدين. وسمّيت ثلاثة أو أربعة معابر معروفة من الجيش والقوى الأمنية بـ"المعابر الإستراتيجية" الممنوع المس بها لحاجة الحزب إليها وخشية الاصطدام به. لكنها كانت تستخدم وغيرها للتهريب من قبل مافيات تجارية ذهاباً وإياباً. قدرت خسائر الخزينة من تهريب المازوت والطحين فقط بزهاء 400 مليون دولار سنوياً.
ازدحم الإعلام اللبناني بالإحصاءات عن خسائر لبنان من تهريب المازوت (مليونا ليتر يومياً) والطحين بين البلدين. وتقدمت كتلة "اللقاء الديموقراطي" بإخبار إلى القضاء مع وثائق، وعقد أحد نواب كتلة "الجمهورية القوية"، زياد حواط (القوات اللبنانية)، مؤتمراً صحافياً قدم فيه معلومات على الخريطة عن معابر التهريب بتفاصيل حددت أياً منها يسيطر عليها الحزب وأيها يستخدم لنقل السيارات المسروقة... إلخ، سيسلمها للقضاء الأسبوع المقبل. ومن بين الوقائع التي ذكرها أن قوات من الفرقة الرابعة في سوريا التي يقودها ماهر الأسد تستقبل المواد المهربة على الجانب السوري.
أحرجت الضجة الإعلامية الحكومة ورئاسة الجمهورية الحليفة للحزب، بالتزامن مع بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي على طلب المساعدة المالية لمواجهة أزمته المالية وفق الخطة الإصلاحية الحكومية. فمن القضايا التي درج الصندوق على إثارتها مع لبنان في السنتين الماضيتين ضرورة تنفيذ الإصلاحات التي يدرك الجانب اللبناني أنها شرط لتقديم المساعدة المالية له، ومنها زيادة واردات الخزينة عبر إجراءات وقف التهريب والتهرب الجمركي (قدرت خسائره بأكثر من 800 مليون دولار). وهذا سيطرح حكماً خلال المفاوضات مع خبراء الصندوق.
مجلس الأمن والسلاح
قفزت حماية سلاح "حزب الله" عبر التهريب الذي يقتضيه تدخله في سوريا ودعمه نظامها، إلى الواجهة مجدداً بالتزامن مع مواقف خارجية تتناول سلاح الحزب والعلاقة مع سوريا. ففي تقريره إلى مجلس الأمن حول تنفيذ القرارين الدوليين 1701 و1559، كرر الأمين العام للأمم المتحدة ما دأبت المنظمة الدولية على ترداده، فحث "الحكومة والجيش في لبنان على اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى (لم يسمها) من الحصول على الأسلحة وبناء قدرات شبه عسكرية خارج نطاق سلطة الدولة".
وأشار إلى مشاركة "حزب الله" في نزاع سوريا وقتال دائر في أماكن أخرى (لم يحددها)، معرباً عن قلقه من تأثيرات ذلك، بما فيها إقحام لبنان في نزاعات إقليمية. وأكد المجلس في بيان عن الرئاسة مواقف تقليدية يصفها مسؤولون لبنانيون بأنها "أرشيفية"، فأوصى بضرورة تنفيذ لبنان للقرار 1559 القاضي بنزع سلاح جميع الجماعات المسلّحة، كما شدد على ضرورة التزام جميع الأطراف اللبنانية بوقف أي تورط في أي نزاع خارجي. ودعا "جميع الأطراف اللبنانية إلى إعادة الالتزام بسياسة النأي بالنفس ووقف أي تدخل في أي نزاع خارجي". وشجع على مواصلة الدعم الدولي لبناء قدرات الجيش اللبناني بصفته "القوة المسلحة الشرعية الوحيدة بالبلاد، وفق الدستور واتفاق الطائف".
مجموعة الدعم الدولية والقرار 1680
وفي اليوم نفسه صدر بيان عن مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وإيطاليا وألمانيا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية (تنضم إلى اجتماعاتها أحياناً مصر والسعودية والإمارات)، أخذ علماً بتبني الحكومة بالإجماع لخطة التعافي المالية كإطارٍ بناء للإصلاحات المستقبلية، وقرارها بطلب برنامج دعم من صندوق النقد الدولي كخطوة أولى في الاتجاه الصحيح.
وإذ عبرت المجموعة عن دعمها لبنان لمساعدته على تخطي الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية الراهنة ومعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والإنسانية، حثت الحكومة على الإسراع في إنجاز التدابير الضرورية بسرعة للحصول على مساعدات مالية خارجية إضافية لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتفاقمة للسكان.
ولفت مراقبون في بيروت إلى أن المجموعة ذكّرت بضرورة تنفيذ لبنان القرارات الدولية، بما فيها القرار 1680 الصادر عام 2006 والذي ينص على ترسيم الحدود اللبنانية السورية (وهو أمر يطرح على الدوام كلما أثيرت حجة التداخل في أراضي البلدين نتيجة التضاريس الطبيعية التي تسهّل التهريب وإبقاء الحدود الشرقية فالتة). والتذكير بهذا القرار جاء أيضاً في بيان المجموعة بعد اجتماعها في باريس في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2019 بشأن الإصلاحات اللازمة، والتي تشمل تنفيذ الالتزامات التي تم التعهد بها في إطار مؤتمر سيدر.
المجلس الأعلى للدفاع ومحاذير قراراته
دفعت الضجة حول وقائع التهريب رئيس الجمهورية ميشال عون إلى ترؤس اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع عرض الانعكاسات المالية لاستمرار التهريب، فقرر إجراءات بعضها تكرار لإجراءات سابقة لم تنفذ، لكنه أضاف إليها استحداث مراكز مراقبة جديدة للجيش على الحدود وتشديد العقوبات على الشاحنات التي يتم ضبطها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلمت "اندبندنت عربية" أن الدعوة إلى الاجتماع تمت في ضوء إبلاغ سفراء دول غربية المسؤولين أن مسألة فلتان الحدود والتهرب الجمركي ستُطرح في التفاوض على المساعدات لمعالجة الأزمة الاقتصادية، بما يستدعي أخذ الأمر بجدية.
مناقشات مجلس الدفاع جرت في ظل معطيات الحذر: كبار القادة الأمنيين أبلغوا المستوى السياسي حين فوتحوا بالسيطرة على معابر التهريب أنهم لا يستطيعون ذلك مخافة الاصطدام بالحزب، حسبما أوضح مرجع سياسي لـ"اندبندنت عربية" طلب عدم الكشف عن اسمه. ولذلك جرى اعتماد وسائل مصادرة الشاحنات المحمَّلة مواداً مهربة. ولذلك اعتبر سياسيون أن القرارات جاءت "مخيبة للآمال"، كما قال رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي دأب حزبه على طرح قضية المعابر والتهرب الجمركي. فالأطراف اللبنانيون الساعون إلى وقف التهريب يعتبرون أن قرار مصادرة الشاحنات يعني أن الأجهزة الأمنية تعرف مصدر تحميلها للبضائع، وبالتالي الوجهة النهائية لحمولتها.
نصر الله والخط الأحمر
هذه المناخات الداخلية والخارجية المذكورة أعلاه واجهها نصر الله، الذي تحدث في اليوم نفسه، فبدا واضحاً أنه يستبق الضغوط على حزبه. فالوقائع المتصلة بمسألة المعابر جاءت بعد أيام على تشديد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وموفد بلاده في الملف السوري جيمس جيفري، على وجوب انسحاب إيران من سوريا (وبالتالي "حزب الله"). ومؤدى كلام نصر الله هو وضع "خط أحمر" على فكرة إقفال المعابر التي يستخدمها، بحسب وصف مصدر سياسي من خصوم الحزب. فهو وضع فكرة الاستعانة بقوات دولية على الحدود الشرقية (طرحت الفكرة قبل 10 سنوات استناداً إلى القرارين 1701 و1680) بمصاف المحرمات. إذ رفضها نصر الله رابطاً بينها وبين قدرة المقاومة على تأمين إمكانياتها الدفاعية والردعية في مواجهة إسرائيل. وطرح بديلاً تعجيزياً هو التواصل بين الحكومتين اللبنانية والسورية لمنع التهريب، في وقت يعرف أن التطبيع مع نظام الأسد موضوع خلافي كبير.
في الخلاصة تختصر كل التعقيدات المحيطة بمسألة المعابر بين لبنان وسوريا، معاناة لبنان السياسية والاقتصادية والمالية، شأنه شأن العراق، نتيجة إلحاق "حزب الله" البلد بمقتضيات السياسة الإيرانية في الإقليم.