لا نجانب الحقيقة إذ نقول إنّ الروائي الياباني يوكيو ميشيما، صاحب الشهرة العالمية الواسعة، حظي لدى القرّاء العرب بمكانة عالية، وقد ترجمت بعض أعماله إلى العربية، ولا سيما رباعيته ( بحر الخصوبة، وثلج الربيع، والجياد الهاربة، وملاك التحلّل)، والتي تجلّت في روايات: اعترافات قناع، ومدرسة البدن، واضطراب الموج، والبحّار الذي لفظه البحر، والموسيقى، وثلج الربيع، وعطش الحبّ، ومعبد الفجر، وحبّ محرّم، وغيرها الكثير من الروايات التي عنيت دور النشر، العربية ببعض منها دون غيرها، ولم تعنَ بالمجموعات القصصية لديه، وإن كانت أقل من الروايات 15 في مقابل 40 رواية، فهي تعين على فهم عالم ميشيما وتصوراته ورؤاه المتطرّفة، في علاقة الرجل بالمرأة، وفي الصور الأسطورية التي كان له أن ينسجها عن الجسد الفتيّ، وهاجس الكمال، والرغبة في الخلود، من مثل: اقتباسات من يوميات فلسفية حول مقتلة غير مجازاة في القرون الوسطى، وصبحية حبّ نقي، وهاروكو، والسيرك، وفراشة، واللبؤة، ورحلة مضجرة، وشهيدة، والسيجارة، والبحر والمغيب، والأجنحة، والجسور السبعة، وغيرها.
يضاف إلى هذه الأعمال السردية، اثنتا عشرة مسرحية ومنها: السيدة ساد، وصديقي هتلر، وساتوبا كوماشي، والسيدة آوي، وخمس حكايات حديثة في فنّ النّو، وغيرها. والمسرحيات تعكس بدورها رؤية الفراغ في الفكر الياباني القديم، مثلما تجسّد نظرة ميشيما إلى الزواج المشوب بالخيانة، والمرأة ذات النزعة السادية، والشعور الوطني المتطرّف المتمثّل بتأليه الأمبراطور وإحياء التعاطف مع النازية، وغيرها من الظواهر الصادمة أو التي تدلّ على اضطراب في كيان شخص عاش حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، من دون أن يعنيه من آثار الحرب سوى النزعة التدميرية الذاتية التي كانت عواملها ماثلة في نفسه من صغره، ونشوءه وحيداً بلا رفاق، وحرمان جدّته له من كلّ صنوف الألعاب، وخيانة أمه أمام ناظريه وزوجها كليهما، ومثليّته الجنسية، يزيدها أواراً في نفسه المضطربة حنينه الفريد إلى الدم والموت، باعتباره سليلًا لمقاتلي الساموراي، على ما كان أهله يفاخرون به.
رواية مجهولة
الرواية التي أتحدث عنها، وهي بعنوان" حياة للبيع"، والتي لم يسبق أن نشرت مترجمة إلى الفرنسية إلا هذه السنة (2020) عن دار غاليمار، بترجمة دومنيك بالميه عن اليابانية، تتميّز في أنها سبقت انتحاره بسنوات قليلة، أي في السنوات العشر الأخيرة، حين لم يعد مؤمناً بقدرة الكتابة الخلاصية، وإنما كان جلّ اهتمامه منصبّاً على قيامه بعمل ما، أو جعل أبطاله ينوبون عنه- إلى حين- في العمل المرتجى، أي الانتحار أو القتل على يد أحدهم، كما كان مرسوماً للبطل السلبي "هانيو" في هذه الرواية. ولو أجرى القارىء العارف بكتابات ميشيما حساباً لمجمل أعماله الروائية والقصصية والمسرحية، والشعرية، لتبيّن له أنّ الروائي يقود قرّاءه إلى منابع الجريمة والميل الانتحاري، إذ يعيّن فيها مقدار الآلام والمآسي التي تتملّك القلب البشري، وكيف تتحوّل الارتدادات الرغبية (الحب/الكره، السلب/ الإيجاب، التسامي/التسفّل...) إلى أعمال جرمية موصوفة، على ما تقول الباحثة كريستين كوندامين، في تحليلها النفساني لمسلك الشخصيات في أعمال ميشيما وللكاتب الإنسان الذي غدا شخصية نموذجية أولى وبطل رواياته الأخير، والحاصل على الخلود انتحاراً، على ما استوهم ورسم.
إذاً، تدور أحداث الرواية "حياة للبيع" حول شخصية محورية، أو قل، بطل سلبي، بتعريف الناقد فلاديمير بروب، يدعى هانيو، يبرزه مطلعها على أنه ناج للتوّ من محاولة انتحار، بل يدّعي ادّعاء مثيراً للسخرية، أمام فتيات المكتب أنه مقبل على الانتحار، ولا يفعل.
وفي الغد، يقرر هانيو أن يقدّم استقالته من المكتب حيث كان موظّفاً، فينال تعويضاً مزجياً، ثمّ يقدم على نشر إعلان يخصّه بعنوان "حياة للبيع" ومؤداه أنّ الشاب يامادا هانيو عازم على بيع حياته لقاء مبلغ من المال يراه مناسباً. ولم تمضِ أيام حتّى أتاه رجل عجوز، كانت لديه زوجة شابة ولعوب، خانته ومضت إلى غيره، طالباً من هانيو الانتقام له، وإيقاعها في شباكه، والتسبب بمقتلهما معاً. بعد توقيع البطل على العقد، ونيله المقابل، مضى إلى المرأة، التي أمكن له إغواؤها. إلاّ أنّ الأحداث تتلاحق، على نحو مخالف لمرتجى العجوز، إذ تُقتل المرأة الشابة، بعد اكتشافهما متلبّسين، ويترك الشاب لحال سبيله.
ثمّ تأتيه امرأة، بداعي إعلان البيع نفسه، كان زوجها قد مات، وتولّى ابنها الفتى إدارة شأنها، طالبة منه أن تحيا معه آخر أيامها بفيض من المتَع والجنس، قبل أن تنهي حياتها انتحاراً. ولكنّ الأحداث المتلاحقة سرعان ما وضعت الشابّ، البائع نفسه (هانيو)، حيال عصابة تدّعي كونها من جمعية الخدمات السرية، وأنهم عازمون على قتله بسبب إفشائه معلومات عنهم للأمن الياباني، غير أنّ المرأة تختار أن تنتحر بديلاً من الشاب، بعد بوحها بحبّها له. عندئذ، يتمكّن الشاب من التملّص من العصابة وينجو بنفسه، وبالمال أيضاً.
ومن ثم، لا تلبث أن تلاقيه امرأة شابة، فائقة الجمال، شارية إياه بمبالغ أعلى مما سبق، طمعاً بيفاعته وصحّته الجسمانية والجنسية، ولأيام معدودة في قصرها المنيف. فيتّضح من الأحداث أنّ المرأة الشابة والبهية الطلعة إن هي إلاّ مصّاصة دماء، وأنها ما برحت تمصّ دماءه حتّى هزل جسمه ومرض، وكاد يموت لولا فراره من القصر، الذي هبّت فيه النيران فأهلكت المرأة مصّاصة الدماء، ونجا ابنها الشاب من الموت المحتّم.
أطياف المرأة
وبينما كان هانيو هارباً من أطياف المرأة، وساعياً، بما بقي لديه من حسّ، إلى مخبأ يأوي إليه، إذا به يحظى بنَزْل، في منطقة نائية من المدينة، يتفق فيه مع صاحبته العجوز بأن يسكن في جناح واسع، ولكن لقاء مبالغ من المال كبيرة، ما دام سوف يقيم إلى جانب فتاة ثلاثينية عزباء، كانت لطالما انتظرت عريسها الشاب، وها هو يأتي. ولما طابت له الإقامة مع تلك الفتاة شهوراً عدّة، زوجاً وعاشقاً، عاودته الوساوس بالملاحقة والقتل، فأطلق ساقيه للرّيح، وقد جنى من كلّ مغامراته وعمليات بيع نفسه مليوني ينّ ياباني وكذا مئات الآلاف. وفي المرحلة الأخيرة من مسار هروبه، يخطر له أن يعدّ لدى أحد الساعاتيين، ساعة نابضة ولكن داخل علبة خشبية متينة.
وفيما كان يتجوّل في أزقّة المدينة، إذا بثلاثة أشخاص يلاحقونه، إلى أن تمكّنوا منه، وقيّدوه، وباشروا في ابتزازه وتهديده بالموت إن هو لم يصرّح لهم بما يعرفه عن صلاته بقوى الأمن اليابانية، وكان بحسبهم جاسوساً عليهم بسبب خروجه سالماً من كلّ الضيقات التي صادفها في سبيله إلى حينه، وكان قد أفشى الكثير فاستحق الإعدام بحسبهم. عندئذ، أخرج هانيو( أو جمعية الخدمات السريةACS)من أسرار جمعيّتهم من جيبه، وبحركة بهلوانية، علبة الساعة النابضة زاعماً أنها عبوة ناسفة وموقتة وأنه لم يتبق سوى دقائق معدودة حتى تنفجر وتودي بجميع الحاضرين. فما كان منهم إلاّ أن ولّوا هاربين تاركين هانيو مكبّلاً في غرفة معزولة. وما زاد الطين بلّة والعبث عبثاً وغرابة، أنّ الشابّ المقيّد لم يلقَ أذناً صاغية لدى رجال الأمن اليابانيين الذين شكا لهم أمر مطاردته وتهديده بالموت على يد جمعية بهذا الاسم. فلم يصدّقه أحد منهم، بل رموه خارج المخفر، بدعوى التلفيق والحماقة!
هل يمكن القول إنّ الرواية الأخيرة لتوالي صدورها (1968) إلى جانب رواية "الملاك في تحلله" من ضمن سلسلة روايات "بحر الخصوبة"، وذلك قبل قرار المؤلف بالانتحار بسنتين أي العام (1970)، تعكس حالة اللامعنى التي بلغها المؤلّف ميشيما في حياته، وحدت به إلى اللعب على حبكة العبث التي تمثّلت في شخصية البائع نفسه، هانيو، وفي إقباله على الموت والفرار من مخاطره بفعل الصدفة الغريبة، والعبثية؟
ثمّ، هل يمكن القول إنّ صوَر المرأة، بل الشخصيات الأنثوية النموذجية التي توالى ظهورها في الرواية طالباتٍ الذّكَر المثالي الشابّ ولكن المضطرب النفس، إنما هي صورة المرأة/المسخ، والمرأة/مصاصة الدماء، والمرأة/ الخائنة، التي جسّدتها جميعاً أمّه وجدّته على التوالي، في أثناء طفولته وفتوّته؟ أما القوام المتناسق والجميل، بل الفاتن الذي بدت عليه النساء الذاهبات إلى اللذة الأخيرة السابقة الموت والانتحار، فهل تراه أحد استيهامات المؤلّف التي عاش لها، وضحّى بنفسه لأجلها، عنيتُ استيهام الجمال الدائم، والخصوبة الدائمة، ومواجهة الموت المفضي إلى انحلال الجسد، بالانتحار الحرّ، بزعم الخلود؟
وأيا تكن الانتقادات الحادة التي قوبلت بها رواية "حياة للبيع"، حين صدورها، في أنّ المؤلّف وضعها في قالب بوليسي أقل ما يقال فيه إنه متهالك وشعبي، وإنّ اللغة التي صيغت بها الرواية خلت تقريباً من الشعرية العالية التي لطالما أثرت عنه في أعماله السابقة، فإنّ رواية "حياة للبيع" ما برحت تشكّل إحدى العلامات الفارقة في نتاج ميشيما الروائي الذي كاد يحوز بفضله نوبل الآداب.