لو رأيتَني اليوم أطوف بكلّ سرور شوارع مدينة لندن على متن دراجتي الهولندية التي تتميّز بإطارٍ أزرق باهت وحافة عجلات بلونٍ أرجوانيٍّ صارخ، لما صدّقتَ أبداً أنّ ركوب الدراجات كان ذات مرّة ألدّ أعدائي وأشدّ مخاوفي.
ولو أنّك تهاب قيادة الدراجات الهوائيّة، رجاءً صدّقني عندما أقولُ لك إنني لستُ واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين يستهينون بمخاوف الآخرين المشروعة تماماً قائلين لهم "لا بأس"؛ ذلك لأنّ الأمر ليس كذلك. وهو بالطّبع غير ذلك تماماً. وأيّاً ما كانت الحقيقة، من المحتمل جداً أن تشعر بأنّك تُخاطر بحياتك في كلّ مرة تمتطي فيها صهوة دراجة هوائيّة.
كنت حتى عامين ماضيين، أقول ما تقوله الآن يا صديقي. لا، بل اعتدت حتى ذلك الوقت أن أردّد بلهجةٍ تبريريّة أنني كنت سأعتبر أنني أعاني من رهاب ركوب الدّراجات الهوائيّة، لولا أنّ "الرّهاب أو الفوبيا هو خوف غير عقلاني في شدّته وماهيته، في ما الخوف من ركوب الدّراجة وسط زحمة المدينة هو، في الواقع، حالة عقلانيّة تماماً".
ويعود سبب هذا الخوف جزئياً إلى عدم ركوبي الدراجة بطريقةٍ جادة منذ الطفولة. وحتى في تلك المرحلة من حياتي، كان نشاطنا الأساسي يقتصر على التّجوّل في أنحاء الحديقة الخلفيّة لمنزلنا والادّعاء بأنّ دراجاتنا ثلاثيّة العجلات والعادية وتلك من نوع السّكوتر هي أحصنة سباق في إسطبلات للفروسيّة. وكما اتّضح لي جيداً، فإنّ هذا النشاط لا يُهيئ الواحد منّا لمسيرة مستقبلية واعدة لجهة قيادة الدراجات الهوائية على الطرقات.
ولم أتجرأ خلال السنوات الثمانية التي أمضيتها في لندن على استئجار دراجة عامة أو استعارة دراجة صديقي الحميم، على ما أذكر، لا بل كنتُ أسخر من مثل هذه الحماقة. وبقيت على هذه الحال إلى اليوم الذي هبّت فيه عاصفة مثالية وأعطتني، بين ليلةٍ وضحاها تقريباً، الزّخم الذي كنتُ أحتاجه لأتخلّص من حالتي... أو من رهابي، إذا صحّ التّعبير.
كنتُ دائمة الإسراف في المال وأردتُ أن أوفّر بعضه؛ فبعد ستة أشهر من العمل في قسم "لايف ستايل" لدى صحيفة "اندبندنت"، حيث يُعتبر تلقّي علب المكسرات وأطباق بيتزا "دومينوز" من دون سببٍ وجيه سمة أساسية في يوم عملٍ عادي، شعرتُ بأنّني تخطيتُ كلّ الموازين، وكرهت للغاية رحلتي اليومية من المنزل للعمل التي استغرقت ساعة كاملة باستخدام وسائط النقل العامة.
ولمّا أخبرتني إحدى زميلاتي عن التحاقها ببرنامج "اذهب إلى عملك على دراجتك"، الذي يتكفّل رب العمل في إطاره شراء دراجة هوائية لكلّ موظّفٍ مشترك على أن يخصم ثمنها من راتبه الشهري على شكل دفعات مريحة لمدة سنة، قلتُ في نفسي "وجدتُ ضالتي!"
وفكّرتُ بأنّه "ربما عليّ أن أحذو حذوها!" لكنّ أجزاءً مختلفة من دماغي كانت تصرخ محذّرة من الموت والهلاك. كان الأمر أشبه بالتحوّل من ديانة إلى أخرى: في لحظة، كنتُ أستبعد ركوب الدراجات كلياً عن حياتي. وفي لحظة أخرى... لم أكن أفكّر في شيءٍ آخر سواه.
أيّاً ما كانت الحقيقة، من المحتمل أن تشعر بأنّك تُخاطر بحياتك في كلّ مرة تمتطي فيها صهوة دراجة هوائيّة.
وبعد مضي عامين، يمكنني أن أقول بكلّ صراحة إنّ اشتراكي في البرنامج كان أحد أفضل القرارات التي اتخذتُها في حياتي. فتغلُّبي على خوفي من ركوب الدراجة الهوائية جعلني أكثر لياقةً وثراءً وسعادة، إذ أتاح لي التجوّل حول منتزه "ريجينت"، والتأمل بفرح أوراق الشجر وهي تتحوّل من اللون الأخضر إلى الذّهبي قبل أن تتساقط أرضاً وتمتزج بالتراب، بعيداً عن المواصلات المدينية المزدحمة.
ومع البدء حالياً بتخفيف إجراءات الإقفال العام الناجم عن تفشي وباء كورونا، يجد الكثير من البريطانيين أنفسهم في وضعٍ مقلق يُحتّم عليهم العودة إلى العمل مع الحرص على تجنّب وسائل النّقل العامة. ويكاد هذا الأمر أن يكون شبه مستحيل، لا سيما في العاصمة لندن، حيث يُعتبر استخدام قطارات الأنفاق أو الباصات أكثر شيوعاً بكثير من السيارات. لكنّه قد يكون في الوقت نفسه نقطة التّحوّل التي ستقلب حياتك رأساً على عقب، وستجعل رغبتك في التجوّل من دون القلق من الفيروس المستجدّ، بصورة مؤقتة، أكبر وأقوى من خوفك من التنقّل على عجلتين. إذا حصل لك ذلك، تابع القراءة وتعرّف على حكمتي في ما يتعلّق بركوب الدراجة الهوائية رغم الشعور بالخوف الشّديد منها.
اخترْ الطريق المناسب
بصرف النظر عن مدى خبرتك في ركوب الدراجات، لا شكّ أنّ هناك بعض الطّرقات التي تخشى أن تطأها، أو بالأحرى أن تتجوّل فيها. وكونك درّاجاً متمرساً لا يعني قطعاً أنه سيسُرّك كثيراً أن تجد نفسك فجأة على شارع "أولد كنت رود"، على سبيل المثال لا الحصر. ولأنّ معظمنا لا يعيش حياةً مثيرة، تراهم ينتظمون على سلوك طريقين محدّدين أو ثلاثة على الأكثر. لا تختر أوّل اقتراح تُقدّمه لك خدمة الخرائط من "غوغل"، بل ادرس بدقّة كل الإمكانيات المتاحة لك. ابحث عن طرق مزوّدة بمسارات خاصة للدراجات وشوارع أقلّ ازدحاماً وطرق هادئة، إن كنت في لندن.
عوّدْ نفسك
من الضّروري أن ألفت انتباهك مرّة أخرى إلى أنّ الدّراجين المتمرّسين أنفسهم يعلمون جيداً أنّ التعوّد هو مرادف الأمان. فلو أنّك تعرف كل شبر من الطريق، وتعرف متى تنعطف ومتى تتوقف عند إشارات المرور ومتى تُغيّر الاتجاه، يمكنك أن تترك الدراجة تُقاد أوتوماتيكياً بواسطة برنامج السائق الآلي، في ما تصبّ أنت جلّ تركيزك على ما يفعله الآخرون ممن يستعملون الطريق نفسه. ومتى اخترت الطريق الذي يُناسبك، سرْ عليه بضع مرات لو أمكن حتى تتعرّف إليه أكثر. وبعدها، اركب الدراجة واسلك المسار نفسه كلّ مرة من دون أيّ تغيير أو محاولة لجعله ممتعاً أكثر. دع الأمر يصبح أوتوماتيكياً؛ أعدك، كلّما قمت بهذا الأمر كلّما زال توترك.
اعطِ نفسك وقتاً إضافياً
عندما تكون في بداية تعلّمك ركوب الدراجة، فإن آخر شيء تودّ أن تقلق بشأنه هو الوصول متأخراً إلى العمل بسبب منعطفٍ خاطئ أو أشغال طريق غير متوقعة. أنا كنتُ أشعر بالتوتر وبارتفاع الأدرنالين في جسمي في كلّ مرة كنتُ أركب فيها الدراجة طيلة الأسابيع القليلة الأولى؛ فالأمر كان جديداً وغريباً عليّ. امنح نفسك هامشاً وقائياً من الوقت، نصف ساعة إضافية أو أكثر، حتى لا تُضطر إلى الإسراع أو القلق بشأن الوصول في الوقت المحدد.
استعنْ بصديق
أنصحك من كلّ قلبي أن تسأل درّاجاً يتمتع بالخبرة لمرافقتك في مشاويرك الأولى على الدراجة. من المطمئن جداً أن تعرف أنّك لست وحيداً لو حدث لك مكروه، ومن المفيد أن تتابع شخصاً يعرف ماذا يفعل، راقب كيف ومتى يُعطي إشارة وكم مرة ينظر إلى الخلف ليتحقّق من وجود سيارات ومتى يبدأ بالتباطؤ للتوقف عند إشارات المرور. إلى ذلك، أنصحك بتسجيل نفسك في دورات إتقان تعلّم ركوب الدراجات الهوائية (المخصصة للكبار والصّغار على السّواء). توقفت هذه الدّورات مؤقتاً بسبب الإقفال التام، ولكنّها ستُستأنف في وقتٍ لاحق. وعندما يحصل ذلك، تذكّر أن تلتحق بإحداها لأنها قادرة على رفع معنوياتك وزيادة ثقتك بنفسك.
اتّبعْ القواعد بحذافيرها
أشعر بأنّه لا يجدر بي أن أقول لك هذا، ولكنني سأقوله في كلّ الأحوال. لا تتجاوز إشارات المرور الحمراء أو معابر المشاة بوجود مشاة؛ احترم إشارات توقّف المرور ولا تحذو حذو الدّراجين الآخرين حتى ولو تجاهلوا جميعاً قواعد استخدام الطريق. ولا تنسَ أبداً أنّ اتباع القواعد بحذافيرها يُساعد على التحكّم بمشاعر الخوف والقلق.
جهّزْ نفسك
كلّما تجهّزت بشكل أفضل، كلّما زاد شعورك بالأمان. وهذا يعني في عالم الدراجات الهوائية أن تشتري لنفسك بعض المعدات، كالخوذة طبعاً وبعض الملابس البراقة، وتُزوّد دراجتك بأضواء أمامية وخلفية للتنقل بأمان في ساعات الظّلام، علماً بأنّ الحاجة إلى هذه الأضواء تكاد تنتفي خلال فصل الصيف. افعل كلّ ما في وسعك لتجعل نفسك مرئياً لمستخدمي الطريق الآخرين.
لا تكن خجولاً
سيطر على المساحة التي تحتاجها من الطريق، هذه هي من دون منازع أفضل نصيحة أُسديت لي حين بدأتُ ركوب الدراجة الهوائية. لا تعتذر لأنك موجود في الشارع ولا تحاول حشر نفسك بالرصيف لتفادي السيارات، لأنّ مثل هذه التصرّفات لن تُحسّن سلامتك. افرض حضورك؛ ثق بنفسك وكن جسوراً.
كوّن وجهة نظرك الخاصة
صحيح أنّ الخوف هو حالة مبنية على الأحاسيس والمشاعر بدلاً عن المنطق، ولكنّ ربما كان من المفيد أيضاً أن تذكّر نفسك بالحقائق عندما يتعلّق الأمر بالمخاطر. فمثلاً، تفيد الأرقام الصادرة عن وزارة النقل بأن ثمة 29 حالة وفاة لكل مليار ميل جرى اجتيازه بواسطة الدراجة الهوائية و34 حالة وفاة لكل مليار ميل قُطع سيراً على الأقدام. ومع ذلك، فإنّ الخوف لا يعتريك عندما تخرج من منزلك سيراً على قدميك، أليس كذلك؟ الحياة مليئة بالمخاطر، وعلى المرء أن يتوخى الدقة في الموازنة بينها وبين المكافآت المطلقة. ثق بي: ركوب الدراجة يستحق كلّ العناء.
© The Independent