بينما يزداد زخم النقاش حول كيفية تغطية التكاليف الاقتصادية للجائحة، يمكن التمييز بين تشكيلتين من الحجج التي يستقر حولها النقاش.
ثمة من يرى مستقبلاً قاتماً من تصاعد الدين العام (إلى جانب ديون الأسر والشركات)، ويتوقع عقداً أو أكثر من التقشف في شكل زيادة الضرائب وقيود الإنفاق. وهناك آخرون أكثر تفاؤلاً يلمحون الفرص في وعود البنوك المركزية "بفعل ما يلزم" في السياسة النقدية. ويشمل هذا إنشاء غابة من أشجار المال يمكن اللجوء إليها لسداد تكاليف كل برامجهم المفضلة، بما في ذلك تكاليف نظام دائم وسخي للدخل الأساسي الشامل وتكاليف اتفاق جديد عن البيئة والمستعمرات على سطح المريخ.
لكن مجموعتي الحجج كلاهما مخطئ.
إن عبء الدين أقل إثارة للقلق مما يبدو. ولدى قياس الدين العام في المملكة المتحدة وعدد من البلدان الاخرى، بالنسبة إلى الاقتصاد، يظهر أنه أقل كثيراً من مستوياته بعد الحربين العالميتين، ويمكن تقليصه تدريجياً من خلال مزيج من النمو الاقتصادي الحقيقي والتضخم. علاوة على ذلك، أصبحت خدمة الدين رخيصة بفضل أسعار الفائدة المنخفضة للغاية التي باتت قريبة من الصفر في قيمتها الحقيقية. ومع ذلك، لا تعتبر زيادة التقشف أمراً ضرورياً بالنسبة إلى المملكة المتحدة.
وفي المقابل، قد لا ينطبق هذا الاستنتاج المريح على دول كإيطاليا وبعض الاقتصادات الناشئة التي تبدأ ديونها عند مستويات مرتفعة. وتعتمد كلها على تساهل دائنيهم، أو ما يعرف بـ"لطف الغرباء".
ويعتمد مُنظّرو شجرة المال المتفائلون على ظهور سياسات نقدية طارئة غير تقليدية يأملون في جعلها دائمة. وتعدّ طباعة النقود لتمويل العجز جزءاً من الاستجابة اللازمة لامتصاص صدمة اقتصادية كبيرة، لكنها تنطوي على مخاطر كبيرة إذا استُخدمت كآلة نقدية للإنفاق الاعتيادي غير المنضبط، فقد اكتشف رئيس زيمبابوي الراحل روبرت موغابي والرؤساء المتعاقبون في الأرجنتين أن نتيجة ذلك تتمثّل في تضخم مفرط.
ليست تلك المبادئ الأساسية جديدة، بل تعود إلى بداية الزمن عندما خلق الله الجنة الاقتصادية في جنّات عدن. لقد كان آدمُ، الذي يمثّل الحكومة (في سياق هذا التشبيه)، مسؤولاً عن السياسة المالية، ومنها إنفاق المال على الجنة. وقد جمع تلك الأموال من الضرائب أو الاقتراض، وبقي بعيداً عن حواء المُحَرَّمة عليه التي أدارت الموارد المالية، ووضعت أسعار الفائدة وحرصت على إبقاء التضخم ضمن الحدود.
في البداية، بدا أن كل شيء على ما يرام. ألقيت خطابي الأول في البرلمان ممتدحاً فيه بشدة، الشكل البريطاني لهذا التكوين في 1997، حينما جعل غوردون براون "بنك إنجلترا" مستقلاً. وقبل ذلك ببضع سنين، تأسست الجنة الأوروبية، فيما كانت الجنتان الأميركية والسويدية وغيرهما موجودة منذ فترة أطول.
وفي أثناء ذلك، جاء ثعبان على شكل أزمة مالية، ليقدم تفاحة مُغرية إلى حواء على شكل تيسير كمي. ومن خلال طباعة النقود لشراء الكثير من السندات الحكومية، تمكّن البنك المركزي من ضخ السيولة في البنوك وغيرها من الوسطاء الماليين. وعلى نحوٍ مماثل، أمكن للبنوك ضخ تلك الأموال كقروض في الاقتصاد عامةً، ما يُسهّل توفير الائتمان الذي عاني الاختناق بسبب انهيار عدد من البنوك، ووصول بنوك أخرى إلى أوضاع خطيرة.
آنذاك، كانت الأموال تُخلق على شكل ائتمان، لكنها لم تكن "أموالاً مجانية" غير محسوبة، فقد ظلت الأرقام الرئيسة حول الدين الحكومي شفافة، بل ارتفعت بشكل حاد في وقت تعيّن دفع الفائدة على السندات وسداد القروض.
في سنوات الحكومة الائتلافية، سألت ذات مرة محافظ "بنك إنجلترا"، السير مارفن كينغ، عن سبب عدم استطاعة البنك المركزي مساعدتنا أكثر بشكل مباشر عن طريق "طباعة النقود" لتمويل بعض النشاط الحكومي، وتجنيبنا التخفيضات المؤلمة. وقد صُدم المُحافظ، مؤكداً على أن فعلاً كهذا سيكون تدخلاً في السياسة المالية، وذلك ليس من شأنه. كانت السياسة المالية بمثابة آدم، وكان هو بمثابة حواء، التي يستعصي إغراؤها.
واليوم لدينا أزمة أكبر بمثابة أفعى. لذا، ثمة إغراءات أكبر بكثير، وكذلك مخاطر عدم فعل أي شيء.
لقد جرى اللجوء إلى التيسير الكمي على الفور لتوفير السيولة للبنوك كي تستمر في الإقراض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحفاظ على سعر فائدة منخفض في الدين الحكومي، لكن المشكلة الأكبر تمثلت في كيفية مساعدة ملايين الأشخاص اليائسين الذين فقدوا وظائفهم، وآلاف الشركات اليائسة التي فقدت العملاء نتيجة قرار متعمد يقضي بإغلاق الاقتصاد لمنع الانتشار الفعلي لفيروس كورونا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتجسد الإجابة الواضحة في أن تقرض البنوك المركزية الحكومة مباشرة، ذلك الأمر الذي أثار صدمة السير مارفن تحديداً. ويحدث ذلك حالياً بالفعل في اليابان، لكن لا يزال هناك وهمٌ بأن على الحكومة خدمة هذا الدين وسداده، على الرغم من عدم مطالبة المأمورين التنفيذيين بذلك أبداً. ومن الناحية النظرية، لا تزال عذرية البنوك المركزية سليمة كحالها دوماً.
من ناحية أخرى، لن تحتاج تلك البنوك إلى الكثير حالياً كي تذهب إلى أقصى حد، فيغدو ممكناً للحكومة إصدار السندات المسماة بـ"المستديمات" إلى البنك المركزي، من دون الحاجة إلى دفع ثمنها على الإطلاق، أو قد يكون الإقراض في شكل "أوراق الإقرار بالدين" (IOUs) التي لا يمكن إعادة بيعها في أسواق الديون. كذلك من المستطاع تثبيت الفائدة عند الصفر.
فلماذا لا تعترف البنوك المركزية بأنها فعلت فعلتها ولا تخجل؟ هناك سببان.
يتمثل الأول في الخوف من أن تؤدي الخطيئة الأصلية، المتمثلة في السماح للسياسة المالية بالتدخل في السياسة النقدية، إلى عواقب تتخذ شكل التضخم، وهذا ليس خطراً بسيطاً. وفي ظل انهيار طلب المستهلكين (الذي يؤدي إلى خطر معاكس يتجسد في الانكماش)، يحدث أيضاً انقطاع كبير في الإمدادات، مع بقاء الحقول من دون أن تُحصد، وكذلك تضرّر سلاسل الإمداد وفقدان المهارات. وسيؤدي اختناق الإمدادات إلى ضغوط على الأسعار، ربما على نحو مفاجئ ومثير، مثلما يدرك جيداً أولئك الذين تدافعوا لشراء ورق الحمّام قبل أربعة أسابيع.
ويتمثّل الخوف الثاني في خلق سابقة ينتفي معها ما يمنع الحكومات من تقديم طلبات لا متناهية لتمويل كل مخطط مجنون لإنفاق المال من قِبَل السياسيين، فبعدما تكون حواء قد تناولت الفاكهة المالية المحظورة، ستفقد سلطة رفض مزيد من الإغراء. ففي البلدان التي لديها تاريخ من سوء إدارة الديون وبنوك مركزية ضعيفة، قد يؤدي ذلك إلى تهوّر في الإنفاق وتضخم خارج السيطرة.
لهذه الأسباب، يتردد محافظو البنوك المركزية بشدة في إجراءاتهم، بما فيها تمويل السياسة المالية وغض الطرف عنها. وبالنسبة إلى أوروبا، ثمة مشكلة خاصة تتمثل في أن البنك المركزي الأوروبي يُحظر عليه قانونياً التوسيع اللازم لدوره في السياسة النقدية، ما قد يخلق مزيداً من المشكلات في منطقة اليورو. لكن هذا المنع ليس موجوداً في المملكة المتحدة وأميركا واليابان والصين والاقتصادات الرئيسة الأخرى، بالتالي فإن التردد في هذه البلدان لا يمكن أن يدوم. واستطراداً، يجب التوصل إلى اتفاق صريح بين الخزانات والبنوك المركزية ينص على أن التمويل المباشر للإنفاق الحكومي له ما يبرره، لكنه يجب أن يكون محدود المدة ويمكن إيقافه عندما يؤدي إلى التضخم.
سيورد الاقتصاديون التقليديون أن البراءة، بمجرد فقدانها، لا يمكن استعادتها أبداً، لكن الحياة الحقيقية ليست ثنائية كذلك، فلا التقشف الكاسح ولا السخاء المطلق في الإنفاق ضروريان. ويستطيع آدم وحواء نسج علاقة ناضجة يمكنهما من خلالها إدارة جنات عدن اقتصادية. وفي هذا الوقت خصوصاً، توفر بعض أشجار المال التي تربّى بعناية، ملجأً يمكن للجميع الاستمتاع به.
( السير فينس كابل هو الزعيم السابق للديمقراطيين الأحرار)
© The Independent