"عندما تنتهي العاصفة، لن تذكر كيف تمكّنت من الصمود، لن تذكر كيف تدبّرت أمورك لتنجو، لن تكون أكيداً حتّى من أنّ العاصفة انتهت فعلاً. أمر واحد فقط ستكون أكيداً منه، هو أنّك عندما ستخرج من العاصفة لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها. وهنا تكمن الأهمّيّة الحقّة للعاصفة." قد لا تكون العاصفة التي تحدّث عنها هاروكي موراكامي في الاقتباس هذا وباء الكورونا بالتحديد، فهو واقع لم يكن ليتنبّأ بحدوثه الكاتب اليابانيّ السبعينيّ موراكامي، لكنّ ذلك لا يمنع أن يكون هذا الفيروس عاصفةً هوجاء تتسبّب للبشريّة بالأضرار الجمّة.
وعلى الرغم من أنّ بلاد الشمس لم تصب بخسائر بشريّة تضارع تلك التي نزلت بالولايات المتّحدة الأميركيّة وعددٍ من الدول الأوروبّيّة كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، إلاّ أنّ الحجر المنزليّ الإلزاميّ فُرِض على اليابانيّين بشكل صارم منذ السابع من شهر أبريل (نيسان) 2020. ونتيجةً لحالة الطوارئ التي أُعلِنَت في البلاد مع بدء انتشار الوباء أوائل شهر مارس (آذار) 2020، تردّى الوضع الاقتصاديّ وازداد التوتّر والضغط الاجتماعيان وتمّ تأجيل الألعاب الأولمبيّة حتّى العام المقبل فيما كان من المقرّر أن تُقام في طوكيو بين 24 يوليو (تموّز) و9 أغسطس (آب) 2020. وهي تُعتبر المرّة الأولى في تاريخ الألعاب الأولمبيّة التي يتمّ فيها تأجيل الألعاب، فيما تمّ إلغاؤها سابقًا ثلاث مرّات فقط وذلك لظروف الحربين العالميّتين الأولى والثانية أي في الأعوام 1916، 1940، 1944.
وتتزامن خطوة موراكامي للتخفيف من حدّة الحجر المنزليّ مع تحضّر اليابان للخروج من الحجر الإلزاميّ وإنهاء حالة الطوارئ تدريجيّاً ابتداءً من أواخر هذا الشهر نظراً إلى تناقص عدد الإصابات والوفيات فيها. ومن الجدير بالذكر أنّ حالات الوفاة في طوكيو لم تزد عن الـ 250 حالة وذلك حتّى أوائل هذا الأسبوع، وهو رقم جيّد نسبيّاً بالمقارنة مع عواصم الدول الكبرى الأخرى.
وهنا يأتي دور الروائيّ والكاتب اليابانيّ الغنيّ عن التعريف هاروكي موراكامي. فموراكامي الذي يحاول دوماً تأدية دوره في مجتمعه ومحيطه يقول: "أريد أن أؤدّي دوراً للتخفيف من معاناة الآخرين"، ومن هنا فكرته بإطلاق بثّ مباشر على الراديو يقوم به بنفسه ويتكلّم عبره مع المحجورين والمصابين وأهاليهم للتخفيف من آلام وحدتهم وعزلتهم ولمشاركتهم مصابهم. وينطلق البثّ المباشر لموراكامي اليوم الجمعة 22 مايو (أيّار) مساءً، ويقدّم الكاتب من خلاله مقتطفات موسيقيّة وأغاني تنتمي إلى الجاز، بالإضافة إلى قراءة رسائل المستمعين والتواصل معهم والترويح عنهم. وتأتي هذه الخطوة لتشجيع اليابانيّين على التزام بيوتهم وتوخّي الحذر منعاً لانتشار الوباء.
موسيقى وقصص
ولا بدّ من التوقّف هنا عند علاقة موراكامي بالموسيقى. فمؤلّف الروائع العالميّة المترجمة إلى أكثر من خمسين لغة منها العربيّة، كمثل: "الغابة النرويجيّة" و"رقص، رقص، رقص" و"كافكا على الشاطئ" و"ما بعد الظلام" وغيرها، عاشق لموسيقى الجاز منذ سنواته الأولى وهذا ما يبرز في نصوصه، وقد أنشأ موراكامي مع زوجته في خلال سنواتهما الجامعيّة حانة جاز يتوافد إليها عشّاق الجاز من الطلاّب وغيرهم، وقد استمرّ موراكامي في إدارة هذه الحانة لسنوات سبع. وحتّى بعد إغلاق حانته، استمرّ عشق موراكامي لهذا النوع من الموسيقى واعتبر أنّ بثّ برنامجه الخاصّ باسم "إبقَ في البيت" سيكون فرصته ليشارك اليابانيّين والمستمعين من عشّاق الجاز أفضل المقطوعات الموسيقيّة التي يملكها.
وعبر بثّ برنامجه الإذاعيّ هذا المخصّص لدعم حملة البقاء في المنازل التي يقوم بها حاكم طوكيو والتي من شأنها التخفيف من انتشار الوباء عبر الحدّ من تنقّلات المواطنين اليابانيّين، يحتفي موراكامي بموسيقى الجاز من ناحية، كما يشارك مستمعيه مشاعرهم ومشاكلهم عبر تلقّي آرائهم وتعليقاتهم ورسائلهم من ناحية أخرى. ويشدّد موراكامي على رغبته في المساعدة، هو الذي يُعتبر من أبرز الكتّاب اليابانيّين المعاصرين وأكثرهم حظوظاً في نيل جائزة نوبل للآداب. وللتعبير عن رغبته في إزاحة شيء من السوداويّة والبؤس اللذين يعيشهما المجتمع اليابانيّ جرّاء الحجر المنزليّ، يقول موراكامي: "آمل أن تزيح قوّة الموسيقى شيئاً من السوداويّة المحيطة بنا والمتزايدة يوماً بعد يوم جرّاء تفشّي وباء الكورونا." ويعتبر موراكامي أنّه بقصصه وموسيقاه سيؤدّي الدور الذي رغب بتأديته عبر كتاباته وهو مساعدة قرّائه وخلق علاقة تواصل ومؤازرة معهم.
الواقع غير الواقعي
يرى موراكامي، شأنه في ذلك شأن كلّ مثقّف وفنّان وإنسان متصالح مع إنسانيّته، أنّ في الفنّ عطاءً ومحبّة وعزاءً عندما يصبح الواقع أقسى من قدرة الإنسان على تحمّله. وقد وجد موراكامي طريقة يساهم عبرها في تحسين ظروف عيش اليابانيّين في ظلّ الغيمة السوداء التي تسيطر عليهم وعلى نمط حياتهم، هو الذي طالما تحدّث عن رغبته في المشاركة في حياة مجتمعه وأهله. وعبر بثّه برنامجه الخاصّ الذي يحثّ فيه الناس على البقاء في بيوتهم، يخفّف موراكامي من حدّة الضغوطات التي يعاني منها اليابانيّون ويساهم بطريقته في في مؤازرتهم والرفع من معنويّاتهم، فيقول في هذا الشأن: "الطريقة الوحيدة لشفاء العالم من جروحه هي التواجد فيه وتقديم له ما يتوفّر من عطايا". وبهذه الطريقة يتمكّن موراكامي من تحسين المشهد الحاليّ ولو قليلاً هو الذي يملك مكتبة موسيقيّة هائلة دأب على جمعها منذ صغره، فتعلّقه بالموسيقى وحبّه لها سبقا حبّه للأدب والكتابة هو الذي يجد أنّ الكتابة تخلق جسراً سرّيّاً بين الكاتب والقارئ يسمح لهما أن يتبادلا الرسائل ليصبح العالم مكاناً أفضل.
"إبقَ في البيت" برنامج موراكامي الإذاعيّ الموسيقيّ الجديد والفريد من نوعه، خطوة رائعة من أحد أبرز أعمدة الأدب اليابانيّ المعاصر وتصرّف يليق بكاتب ومثقّف من مقام موراكامي للترويج لحملات البقاء في البيوت وتوخّي الحذر. وموراكامي الحريص دومًا على خير الإنسان والمجتمع حفر في التاريخ موقفاً إنسانيّاً متميّزاً ستذكره الأجيال القادمة عند الحديث عن هذه الأشهر القاتمة التي تمرّ بها البشريّة من عزلة وحجر وتوتّر. سيذكر التاريخ موراكامي على أنّه الكاتب الذي ترك قلمه وطاولته ليتحدّث إلى ناسه في أوقاتهم العصيبة، وهذا أقلّ ما يقوم به التاريخ لصاحب رواية "الغابة النرويجيّة" التي يقول في إحدى صفحاتها: "أريدك دوماً أن تتذكّرني. هلاّ تذكّرتني وتذكّرت أنّني كنتُ هنا، واقفاً إلى جانبك في هذه الأوقات بالذات؟".