حتى اليوم، ثمة أطفال لا زالوا يريدون الاستماع إلى قصة ما قبل النوم. قد يبدو الأمر عادياً، لكنه ليس كذلك فعلاً، فلماذا يريد الطفل سماع قصة ترويها له جدته أو أمه ليغفو على وقع أحداثها، فيما بين يديه "آيباد" أو تلفزيون في الغرفة أو حتى هاتف محمول يمكنه أن يشاهد عليه ما يشاء من القصص؟.
الجواب بسيط: الماكينات الإلكترونية تعطي صوراً جاهزة بل وتبقي الطفل مستيقظاً من آثار ضوئها ولهفة متابعة نهايتها وتفقده قدرة التخيّل الطفولية، أما القصص المروية فتشعل خياله الخاص، فيخترع شخصياته بحسب قدرته على التخيّل، ويؤسس عوالم واسعة يلوّنها بمزاجه، ويغرق في أمكنته الخاصة التي تشبه الأحلام، فتنقله القصة التي يسمعها من الواقع إلى الحلم وبالتالي إلى النوم.
"الحكواتي" مهنة
كلنا نعرف حكاية واحدة مشتركة، وهي التحلّق حول الجدة قرب المدفأة بينما تروي لنا حكاياتها القديمة. حتى لو أن الأمر لم يحدث فعلياً، إلا أننا نشعر وكأنه حدث لنا أن روت لنا جداتنا قصصاً، وكأنما الأمر يدخلنا في جينات مخيلاتنا.
فمن من لا يعرف "ليلى والذئب" أو "سندريللا" أو عنترة أو أبو زيد الهلالي أو قصة حب جمعت حبيبين وانتهت إما بمأساة أو بـ"عاشوا أجمل حكاية".
ولو توسعنا في الأمر قليلاً لوجدنا أن تواريخ "حقيقية" لشعوب الأرض قد قامت على قصص وأساطير، صارت جزءاً من الثقافة الجمعية للشعوب، بل وتقام احتفالات ومهرجانات وطقوس في جميع دول العالم لإحياء مثل هذه القصص القديمة وإعادة تمثيلها.
وطالما أن القصص موجودة كجزء من الثقافة العامة، كان لا بد من أن تخرج من غرف نوم الأطفال وتجمعّات العائلات إلى فضاءات أوسع في المجتمع، على أن يرويها شخص معين.
هذا الشخص هو الحكواتي، أو الراوي أو القصّاص الذي يمتهن سرد القصص في المقاهي والأحياء، حيث كان يحتشد حوله الناس قديماً، والآن بات يرويها في المجمعات الثقافية أو في مؤسسات مختّصة بهذا النوع من الفنون التي تحافظ عليها خوفا من اندثارها بعد اتساع عالم الصوت والصورة "الإلكتروني"، وبعد توّسع المجتمعات الضيقة إلى مدن كبيرة باتت انشغالات أهلها تبتعد كثيراً عن الجلوس مقابل شخص يروي حكاية ما.
عالم الحكواتي
عرف العالم العربي مهنة الحكواتي، منذ مطلع القرن التاسع عشر، وحظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي، وعلى سبيل المثال لم يكن في مدينة دمشق مقهى من المقاهي التراثية إلا وفيه حكواتي يقدم "فترته" التي تطول وتقصر بحسب برنامج المقهى.
والأمر ذاته كانت تعرفه مدينة صيدا جنوب لبنان، حيث يقول الدكتور طلال مجذوب إن المدينة عرفت خمسة حكواتيين على مدى قرن ونصف القرن من الزمان، كان أولهم من مدينة حلب الحاج محمد الشقلي الحلبي.
أتى إلى صيدا وأقام فيها ابتداء من العام 1837. وبعدها جاء ثلاثة مارسوا هذه المهنة كان آخرهم الحاج إبراهيم الحكواتي الذي توفي عام 1981 أي قبل 26 سنة.
وما شهدته دمشق وصيدا ينطبق على بيروت وطرابلس وبغداد والقاهرة، طبعاً. فالحكواتي كان ضرورة من ضرورات التسلية والترفيه في عزّ صعود المجتمعات "المدينية" في تلك المدن منذ بدايات القرن التاسع عشر.
كان الحكواتي يبدأ سرد الرواية أو الحكاية مستعيناً بذاكرته أو قدرته على التأليف، وغالباً ما تكون عن شخصية تاريخية تلعب دور البطولة وتتحلى بالشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم. وفي نهاية كل حكاية لا بد أن ينتصر الخير على الشرّ. ويبقي الحكواتي جمهوره في تشوق دائم، وإذا طالت الحكاية لليال وأيام، فإنه كان يحرص على أن تنتهي أحداث القصة بموقف متأزم ويترك البطل في مأزق لتشويق المستمع لبقية الأحداث.
والحكواتي أقرب إلى الممثل بطبيعة الحال، إذ يضطر إلى تجسيد شخصيات روايته وكلامها بتحريك يديه وترفيع صوته أو تضخيمه. وكان من أثر التشويق أن بعض الجمهور من المستمعين يرفض الذهاب إلى بيته قبل أن يستمع إلى بقية القصة ويطمئن إلى أن بطله اجتاز محنته.
وهناك "خبرية" متداولة وعامة، أن أحد المستمعين لم يستطع أن يصبر إلى اليوم التالي، فلحق بالحكواتي إلى بيته ليعرف بقية القصة.
أما أجرة الحكواتي فكان يتقاضاها من صاحب المقهى الذي يتولى تحديد بدل الدخول إلى مقهاه للاستماع إليه وتناول المأكولات والمشروبات، بسعر موّحد.
الحكواتية الأنثى
حين أصبحت رواية القصص الشعبية مهنة شائعة في المدن العربية، كانت حكراً على الرجال بسبب طبيعة هذه المجتمعات المحافظة، خصوصاً أن هذا العمل يجري ليلاً وأمام جمهور غالباً ما يكون من الذكور.
لكن في زمننا هذا، تبدّلت بعض الأعراف في هذه المهنة ومنها أن المرأة بات بإمكانها أن تكون حكواتية، لأسباب الانفتاح الاجتماعي، وتبدّل طريقة العمل، إذ بات الحكواتي أو الحكواتية، يقوم بعمله في أي وقت من النهار وأمام جمهرة مختلطة من الناس من النساء والرجال وكبار السن والأطفال.
ولتأكيد هذا التتغيّر على المستوى "الجندري"، أجابتنا الحكواتية دينيس أسعد من فلسطين، على بعض الأسئلة التي تضيء على تجربتها، وعلى التطوّر الحاصل في هذه المهنة.
تقول دينيس الأسعد عن اكتشاف موهبة "الحكواتية"، إن الأمر تم بالصدفة "خلال مشاركتي عام 2003 في ورشة حول "فن الحكي" مع المخرج المصري حسن الجيرتلي (فرقة الورشة) في الأردن. وكنت شغوفة بجمع الحكايات من مصادر مختلفة، وأساساً مما أتذكره من حكايات أبي في طفولتي، وبعدها رحت ألتقي بكبار السن الذين يمكن اعتبارهم "حكواتيين" بالفطرة. أما عن جمهورها في هذا الزمن، فهو من الصغار والكبار على حد سواء. وتقول الأسعد أنها تفاجأت بمدى اهتمام الجمهور العربي بهذا الفن الذي يعاد أحياؤه خلال زياراتها المتفرقة إلى مهرجانات العالم العربي. وتقول "نحن اليوم نخصّ الأطفال بعروض وحكايات خاصة وأيضاً للبالغين لهم عروضهم وحكاياتهم الخاصة بهم. ونحن نشعر بمدى حماستهم من خلال تفاعلهم ضحكاً واستماعاً وتسمّر عيونهم علينا بينما نروي، واستعدادهم للجلوس مستمعين ومشاهدين لوقت طويل".
في ما يتعلّق بالدعم من المؤسسات الرسمية فتوضح دينيس أنه في الضفة الغربية وغزة كان هناك اهتمام من قبل وزارتي الثقافة والتربية منذ عام 2000 وأصدر كراس "فن سرد الحكايات والقصص" كدليل إرشادي للمعلمين في المدارس الابتدائية.
وحول تأثير عالم الإنترنت وثورة الاتصالات فتقول الأسعد إنه (الإنترنت) ساهم في انتشار هذا الفن. وبرأيها ربما يكون "التلفزيون قد أثر سابقاً في حكواتي المقاهي، ولكن في هذا الزمن اختلف الأمر، إذ بات الحكواتي يُعرف ويُتابع من خلال الإنترنت والفيديوهات التي ينتجها ويروّج لها. بل وأسّست في بعض الدول الأوروبية والعربية جامعات ومدارس خاصة لتعليمه مثل "بيت الحكاية" la maison du conte. وفي إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة أقيمت مدرسة للحكواتيين وفي لبنان هناك تأثير كبير للحكواتي جهاد درويش من خلال ورشات العمل والمنتديات التي يقيمها".