نقاط وشرطات وأكواد تعني الكثير من الهم والكثير من الفرح. كلمات طيبة وأخرى محزنة، وثالثة تحمل ما قل ودل من معلومات وأخبار لولاها لظل هؤلاء منفصلين عن أولئك، ولبقي أولئك مغيبين لا يدرون من أمورهم سوى ما يجري أمامهم وفي محيطهم.
ولولا الاستخدام المفرط لكلمة "ثورة" في القرنين الـ20 والـ21، لكان لقب "ثورة الاتصالات" من نصيب هذه النقاط وتلك الشرط من دون منافس أو منازع. نظام بسيط قوامه مفتاح وبطارية وسلك وخط يربط بين المحطات يبدأ بجهاز إرسال وينتهي بجهاز استقبال ومحصلته النهائية ورقة تحمل القليل المفيد.
مبروك جالك ولد
قد تكون "مبروك جالك ولد" وربما "يؤسفنا إبلاغكم بوفاة الوالد" أو "تم إشهار إفلاسكم" أو "عمك المليونير في البرازيل رحل وترك لك ثروته المليونية". وقد تكون أيضاً رسالة تحذيرية من هرمان غورينج إلى أدولف هتلر، أو مناشدة من ألمانيا للمسكيك لتبقى على الحياد في أثناء الحرب العالمية الثانية، أو رسالة من والت ديزني لإخبار أخيه بأن يبدأ فوراً في إنجاز الفأر لأنهم خسروا الأرنب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الكلمات المقتضبة بالغة الأهمية سواء على مستوى الأسرة أو الحي أو المدينة أو الدولة أو الكوكب استغرقت عملية وصولها من الراسل إلى المرسل إليه عقوداً طويلة، لكن مرحلة تطورها الأكبر والأسرع هي تلك التي قام بها الأميركي صموئيل فينلي بريز مورس (1791-1872) في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الـ19.
تلغراف غير كهربائي
نقطة البداية كانت اختراع التلغراف غير الكهربائي في عام 1794 على يد كلود تشابي، وكان تلغرافاً مرئياً. وفي عام 1809، تم استبدال هذا التلغراف بآخر كهربائي على يد صموئيل سومرينغ، وعرف باسم "التلغراف الخام"، وكان ذلك في بافاريا. وكان في إمكان هذا التلغراف قراءة الكلمات المرسلة على بعد ألفي قدم. وفي عام 1825 توصل البريطاني ويليام سترغن إلى المغناطيس الكهربائي الذي يعد حجر الزاوية في عالم الاتصالات الإلكترونية بعد ذلك. وفي عام 1830 تمكن الأميركي جوزيف هتري من تحقيق قدر أكبر من الاستفادة من المغناطيس الكهربائي وذلك من خلال تحقيق الاتصال لمسافات طويلة. وعلى النهج نفسه، ولكن بمزيد من التطور، ابتكر الفيزيائيان البريطانيان ويليام كوك وتشارلز ويتستون تلغراف "كوك وويتستون" في عام 1837، معتمدين على الكهرومغناطيسية كذلك.
لبنة ثورة الاتصالات
ثم حان دور صموئيل مورس الذي وضع أكبر لبنات ثورة الاتصالات عبر المسافات الطويلة، وذلك عن طريق إرسال إشارات كهربائية عبر سلك يصل بين المحطات المختلفة. وعلى الرغم من أن التلغراف نفسه يعتمد على نظام بسيط قوامه مفتاح وبطارية وسلط وخط يصل بين المحطات جهاز إرسال واستقبال، إلا أن مورس تمكن من ابتكار تلغارف أحادي الدائرة. بمعنى آخر، اعتمد مورس على دفع مفتاح التشغيل لإكمال الدائرة الكهربائية للبطارية، ثم غرس الإشارة كهربائية عبر السلك إلى جهاز الاستقبال. ويمكن القول إن مورس هو أول من فهم الحقائق العلمية لتقنيات التلغراف الكهربائي ونجح في المزج بينها والاستفادة منها للخروح بـ"تلغراف مورس".
لكن دور مورس لم يتوقف عند حدود الابتكار التقني فقط، إذ امتد كذلك إلى تطوير رموز عبارة عن نقاط وشرط تمثل كل مجموعة منها حرفاً من الأبجدية ويتم تشكيل الكلمات بها ليتم بثها عبر خطوط التلغراف. يعتمد هذا النظام الكودي على تخصيص مجموعة من النقاط أي علامات قصيرة والشرط أي علامات طويلة لكل حرف. وفي بدء الاستخدام، كانت الأكواد تظهر عند الإرسال كعلامات على الورقة، ثم يقوم الموظف المسؤول بترجمتها إلى الإنجليزية. وبمرور الوقت، أصبح الموظفون قادرين على سماع الأكواد وفهمها بالاستماع إلى النقر على جهاز الاستقبال فقط.
تمويل من الكونغرس
وقد تلقى مورس تمويلاً من الكونغرس في عام 1843 لإعداد نظام تلغراف بين واشنطن وبالتيمور، وهو ما تكلل بالنجاخ في 24 مايو (أيار) عام 1844 بوصول رسالة تلغرافية كتبها مورس نصها: "ماذا أنزل الله علينا؟" بعدها انتشر نظام التلغراف في أميركا والعالم. وتوالى عدد آخر من المبتكرين الذين حسنوا وطوروا وأضافوا للتلغراف الذي ينسب حتى اليوم لصموئيل مورس.
فمثلاً تمكن عزرا كورنيل أحد مؤسسي جامعة في نيويورك تحمل اسمه من عزل جيد لأسلاك التلغراف. كما ينسب للمخترع الشهير توماس أديسون ابتكار نظام اسمه Quadruplex مكنه من إرسال أربع رسائل في وقت واحد باستخدام الأسلاك نفسها.
ونعود إلى مورس الذي أمضى 12 عاماً من العمل والابتكار ليحفر اسمه في التاريخ باعتباره "مبتكر التلغراف"، على الرغم من أن كثيرين سبقوه في المجال نفسه. ويبدو أن ملكات الابتكار كثيراً ما تحركها دوافع شخصية بعضها يندرج تحت بند المأساة. ولد مورس لأسرة عريقة في مدينة بوسطن الأميركية. وكان والده قساً وجغرافياً. درس الفلسفة والرياضيات في جامعة يال، قبل أن يقرر أن يغير دفته العلمية والعملية استجابة لعشقه الشديد للفنون، وبالفعل سافر إلى بريطانيا عام 1811 ليدرس الرسم. وحين عاد إلى أميركا حقق نجاحات كبرى في مجال فن الرسم. وأنجز مئات اللوحات الرائعة التي طلبها أثرياء. كما تم تكليفه برسم لوحات لرؤساء أميركيين مثل جون أدامز وجيمز مونرو. كما رسم لوحة رائعة للجنرال الفرنسي ماركيز دو لافاييت أحد قادة حرب الاستقلال الأميركية. وفي أثناء رسم تلك اللوحة في واشنطن، تلقى مورس رسالة من والده الذي كان مقيماً في ولاية كونكتيكت يخبره فيها أن زوجته مريضة وأن حالتها الصحية آخذة في التدهور. لكن الرسالة البريدية في ذلك الوقت كان يتم نقلها عن طريق الخيول من مكان إلى آخر، وهو ما يعني أنها تستغرق أياماً وربما أسابيع لتصل من يد الراسل إلى المرسل إليه. لملم مورس متعلقاته بسرعة، وسافر ليطمئن على زوجته، لكنه وصل بعد أيام من دفنها. أصيب الزوج بالحزن الشديد، لكنه قرر أن يترجم حزنه إلى عمل وابتكار يساعد في تعجيل وصول الأخبار لتستغرق دقائق بدلاً من أيام وأسابيع علها تنقذ حياة أو تسمح لأناس بتوديع أحبابهم قبل الفراق.
الفراق قدر
لكن الفراق – شأنه شأن اللقاء- قدر وسنة الحياة. وفراق الابتكارات القديمة يحدث حين تحل الابتكارات الجديدة محلها، فتتغلب عليها وتثبت تفوقاً في الأداء أو السرعة أو الدقة أو كل ما سبق. فقد شاءت أقدار العلم والابتكار والتطور أن يأتي الهاتف ومعه الفاكس ثم الشبكة العنكبوتية وما صاحبها من هواتف محمولة وشاشات على كل شكل ولون وحجم وسعة وجميعها متصل بالإنترنت لتعلن انتهاء عصر التلغراف، أو على الأقل وضع كلمة النهاية أمام تفوقه وهيمنته على مجال التوصيل السريع للأخبار والرسائل القصيرة الحيوية. لكنه سيبقى محتفظاً بكيانه على اعتبار أنه اللبنة الأولى لكل ما تلاه من ابتكارات بما في ذلك الرسائل النصية القصيرة على الهواتف المحمولة في عصر الثورة الرقمية.
وفي عصر الثورة الرقمية خرج العديد من تطبيقات وأنظمة الاتصال الفوري. أحد هذه التطبقات للتواصل والاتصال الفوري ظهر عام 2013 على يد الأخوين الروسيين نيكولاي وبافيل دروف. وقد ركزا جهدهما على الخروج بتطيبق يتيح التواصل المجاني المتعدد الوسائط والمؤمن بشكل شبه كامل لمنع الاختراقات، وذلك عبر استخدام أنظمة تشفير بالغة التعقيد. ولم يجد الأخوان اسماً يليق بتطبيقهما أجدر من "تلغرام".
هتلر وديزني وقنبلة هيدروجينية
وبينما يحتقل العالم اليوم بمرور 176 عاماً على إرسال وتلقي أول رسالة تلغرافية في العالم، يتذكر أمثلة من برقيات التلغراف التي غيرت شكل السياسة وقلبت موازين قوى وعدلت كفة حروب وباركت وهنأت وعزت وواست. برقية بالغة السرية في يونيو (حزيران) 1941 مرسلة من قبل هيرمان غورينغ أحد مستشاري أدولف هتلر والذي كان هتلر قد رشحه ليكون خلفاً له حال تعرض الأخير للقتل أو الأسر يقول فيها غورينغ: "في حال عدم وجود أي إجابة بحلول الساعة 22.00، فسأعلم أنك فقدت حريتك في العمل، وسأتأكد أن شروط مرسومك مستوفاة، وأتخذ الإجراءات اللازمة من أجل رفاهية الأمة".
برقية أخرى أخف وطأة أرسلها والت ديزني لأخيه الذي كان يعمل على رأس فريق ابتكر شخصية أرنب شرير اسمه "أوزولد"، لكن قام أحدهم بالاعتراض على أوزولد وتمكن من الحصول على ملكيته الفكرية، فأرسل والت ديزني تلغرافاً مصيرياً لأخيه: "ابدأ فعلاً بالعمل على الفأر. فقدنا للتو حقوق أوزولد". ولحسن الحظ أن الفأر "ميكي" حقق شهرة منقطعة النظير.
وفي 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 1903، أرسل الأخوان رايت برقية تقول: "حققنا النجاح في أربع رحلات صباح اليوم الخميس". وفي 31 مايو (أيار) أرسل مارك توين برقية من لندن يقول نصها إن "التقارير عن وفاتي مبالغ فيها إلى حد كبير".
لكن تظل برقية "إنه صبي" التي أرسلها عالم الفيزياء الأميركي ومخترع القنبلة الهيدروجينية إدوارد تللر لزملائه في مخبتر لوس ألاموس يخبرهم فيها أن أول قنبلة هيدروجينية في التاريخ قد تم تفجيرها في جزيرة "أنيتوك" والتي فاقت قوتها ألف وهج شمس.
أشهر تلغرافجي
يشار كذلك إلى أن عبد الله النديم (1842- 1896) الذي لقب بـ"خطيب الثورة العرابية" هو أشهر "تلغرافجي" (عامل تلغراف) في العالم العربي. فقد تعلم نقراته وأتقنها، وتم تعيينه "تلغرافجي" في مكاتب عدة أبرزها مكتب تلغراف الباب العالي الخاص بالخديوي إسماعيل.
لكن ولى التلغراف وولت برقياته. بريطانيا أغلقت خدماتها التلغرافية في عام 1982، وكذلك فعلت الولايات المتحدة في عام 2006، ثم أغلقت الهند خدماتها في عام 2013، ولحقت بها بلجيكا في عام 2017. الطريف أن خبر إغلاق خدمات التلغراف في بلجيكا تم الإعلان عنه عبر "تويتر".
لم تختفِ بعد
خدمات إرسال البرقيات التلغرافية في العالم لم تختفِ بعد، لكنها قاب تقنيتين عنكبوتيين أو أدنى من ذلك. مصر من الدول التي مازالت تستخدم خدمة التلغراف وهي الخدمة التي بدأت فيها في عام 1854 مع افتتاح أول خط يربط بين مدينتي القاهر والإسكندرية عبر الشركة الشرقية للتليفونات (المصرية للاتصالات حالياً). وأكثر الاستخدامات شيوعاً هي الشكاوى الحكومية لضمان استلام الجهة المرسل إليها للبرقية، بالإضافة إلى عدد من التعاملات الرسمية والشخصية بغية إضفاء سمة رسمية عليها أو لتأكيد الوصول لا سيما في برقيات العزاء.