قبل أن أبدأ مقالتي أود أن أوضح لقرائي الأعزاء أنني لست خبيراً اقتصادياً ولكني من الذين يتابعون الاقتصاد التركي عن كثب وبطريقة جادة.
وبالتالي فإني سأقوم بتقييم هذه المشكلة من منظور محلل سياسي يقرأ الساحة من خلال النتائج والظواهر، من دون أن أتجاوز حدودي.
وسأقوم بترتيب الأحداث منهجياً حتى أتمكن من تسليط الضوء على الصورة العامة للاقتصاد التركي في الحالة الراهنة.
كما ذكرت في العنوان، بدأ الاقتصاد التركي يعاني أزمة حقيقية، وبدأت نواقيس الركود الاقتصادي تدق في عديد من القطاعات.
وللتعرف على ظواهرها تعالوا بنا نلقِ نظرة على التطوّرات وجدول الأعمال في الإدارة الاقتصادية:
- البحث عن مساعدات دولية، قروض، تمويل، طلبات مقايضة.
- الردود والاستجابات لهذه الطلبات.
- الاتفاقيات المبرمة في هذا المجال.
- تداعيات وآثار هذه التطورات في المجتمع والسياسة.
- النتيجة.
لنبدأ بالعنصر الأول: قدمت أنقرة طلباتها إلى المؤسسات المالية الدولية، ولا زالت تبحث عن مَخرج من أزمتها بهذه الطريقة. وزاد من بلبلتها التقرير الذي نشره البنك الدولي حول آفاق الاقتصادي العالمي، والذي ينص على أن الركود المتوقع في الاقتصاد العالمي سيتحقق قبل الموعد الذي كان متوقَّعاً. وبالفعل سبَّب هذا التقرير بلبلة في كثير من الدول التي تعاني اقتصاداتها من ضعف هيكلي، بما فيها تركيا التي دخلت في مرحلة لا تُحسد عليها.
يضاف إلى ذلك، التأثير السلبي لحرب تجارية محتملة بين الولايات المتحدة والصين، وتداعياتها على معدل نمو الاقتصاد العالمي.
ومما زاد من قلق حزب العدالة والتنمية الحاكم، التموجُ الحاصل في الاقتصاد التركي بسبب انخفاض قيمة الليرة التركية مع تفشي فيروس كورونا.
ولا ننسى أن الضغط الذي مارسته الحكومة على سوق العمل في السنوات الخمس الماضية أرهب رأس المال الأجنبي. و- بطبيعة الحال- أسفر هذا الوضع عن تصنيف تركيا في فئة البلدان التي تعاني من انعدام الأمن في الجانب المالي.
وعلى الرغم من تكتم أنقرة، إلا أننا علمنا أخيراً أنها قامت بجولة في الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية من أجل الحصول على الائتمان والدعم المالي اللذين يساعدانها على إنعاش اقتصادها، منها على سبيل المثال تقدمها بطلب إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض مقداره مئة مليون دولار.
ولننتقل إلى النقطة الثانية التي تدور حول ردود هذه المؤسسات ومدى استجابتها للمطالب التركية؟
لنبدأ بصندوق النقد الدولي أولاً.
من المعلوم أن الصندوق الذي أعلن أن الاقتصاد العالمي سيعيش عام 2020 حالة انكماش بنسبة 3.7 في المئة بسبب أزمة فيروس كورونا، ادعى أن الاقتصاد التركي سينكمش بنسبة 5.1 في المئة.
وقد صرحت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا أن الصندوق يستطيع أن يدفع قرضاً بقيمة تريليون دولار للدول التي تعاني اقتصاداتها من أزمة قوية بسبب الفيروس.
وقد أجْرت تركيا بدورها مفاوضات سرية للاستفادة من هذا الائتمان، ولكن لما تسربت أخبار هذه المفاوضات إلى الصحافة، وتبين أن المبلغ الذي تطلبه الحكومة من الصندوق هو مئة مليون دولار فقط، أثار ذلك حالة صدمة وذهول حتى لدى الموالين للحكومة مما دفعهم إلى التساؤل: هل نحن في حالة صعبة إلى هذه الدرجة؟
وبالفعل لما شعر الرئيس رجب طيب أردوغان بأن ذلك سيؤثر في سمعته بشكل سلبي استدعى فريقه قبل أن يقدموا طلباً رسمياً.
فولّت الحكومة وجهها شطر باب آخر، آملةً في الحصول على تقرير إيجابي من وكالة التصنيف الائتماني الدولية فيتش (Fitch) حتى يسهل عليها الحصول على الائتمان والتمويل.
لكن فيتش، ناهيك عن التقرير الإيجابي، قامت بخفض مستوى الائتمان لتسعة بنوك مملوكة للأجانب ناشطة في تركيا من "مستقرة" إلى "سلبية"، فخابت آمال أنقرة مرة ثانية.
وبالنسبة إلى الصفقات التي أبرمتها أنقرة مع المؤسسات المالية للتغلب على أزمتها الاقتصادية؟
فإنها لم تتوصل إلى توافق مع أي جهة باستثناء دولة قطر.
فقد توصل الطرفان إلى اتفاقية مقايضة (تبادل عملة) مما يعني أن تركيا ستتلقى 15 مليار دولار من قطر.
وستقدم لقطر ما يقابل هذا المبلغ من الليرة التركية كرهينة.
ولا تزال المباحثات مستمرة مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن ذلك.
وفي حال لم تنجح أنقرة في إقناع هذه الأطراف، فإن لذلك أحد تفسيرين:
فإما أن هذه الدول رفعت سقف الفائدة على القروض المطلوبة، أو أنها لا تثق بالاقتصاد التركي، وكلاهما يعني أن بلادي في مأزق لا تحمد عقباه.
وبالأخص إذا علمنا أن لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي التركي قامت بخفض أسعار الفائدة في اجتماعاتها التسعة الأخيرة. وأن مقدار الدين الخارجي الذي يجب على تركيا دفعه في نهاية هذا العام هو 160 مليار دولار.
وإذا اعتبرنا أن من أهم مصادر العملة الصعبة للاقتصاد التركي هو السياحة، فإن بيانات وزارة السياحة التي تشير إلى أن عدد الأجانب الذين زاروا البلاد في أبريل (نيسان) الماضي قد انخفض بنسبة 99.26 في المئة، مقارنة بالعام السابق، وهذا نذير شؤم آخر بالنسبة إلى الاقتصاد.
كما أن تصريحات البنك المركزي توضح لنا حجم التذبذب في السوق وتناقص صافي الاحتياطي الأجنبي إلى ما دون حد الأمان.
وقد انعكست هذه الحالة المتأزمة على الليرة التركية التي فقدت قيمتها مقابل الدولار في العام الماضي وحده بنسبة 12 في المئة.
وكل ذلك يعني أننا على مشارف مزيد من ارتفاع الأسعار والضرائب، وبالأحرى فقد بدأ ارتفاع الأسعار والضرائب بالفعل في قطاعات عدة.
نعم، هذه هي الصورة القاتمة للوضع الاقتصادي في تركيا.
وبالنسبة إلى تداعيات هذا الوضع على المجتمع والسياسة، ومدى نجاح الحكومة التي يترأسها أردوغان في إدارة هذه الأزمة، فإننا نلاحظ أن الرئيس أردوغان كعادته في كثير من الأزمات السابقة أخذ يوظف العواطف الدينية والروحانية، ويستخدم الأجواء الروحانية في شهر رمضان لتمرير سياساته الخاطئة وتهدئة الشعب الذي أخذ يشعر بمرارة الأزمة.
ويسترجع مصطلحات القاموس السياسي للإسلامويين، ويردد الشعارات القومية والوطنية مثل: "إن هناك لوبي الفائدة، وأطرافاً أجنبية، تهاجم ديننا ومصالحنا القومية، وليعلموا أن الأذان لن يسكت من المآذن، ولن يتمكنوا من تقسيم أمتنا، ولن يستطيعوا أن يُنَكّسوا رايتنا".
ولكن المفارقة أنه هو الذي أرسل وفداً من فريقه الاقتصادي إلى المؤسسات المالية البريطانية التي يسميها "لوبي الفائدة"، من أجل الحصول على قرض واْئتمان، ولا يزال هذا الوفد يطرق الأبواب على أمل الحصول على مبلغ مالي.
ونتيجة كل ذلك، نستطيع القول إن الشعب التركي ربما سيتأخر ويتباطأ في الصحوة من غفوته ولكنه سيستفيق حتماً بسبب الظروف الاقتصادية القاسية التي لا تفرّق بين المتدين والعلماني والقومي، علماً أن القاعدة الشعبية لأردوغان نفسه ما عادت تُصدّق مثل هذه الشعارات المجردة، التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
ولا ينبغي أن ننسى أن من بين الذين أسهموا في فوز مرشح المعارضة (أكرم إمام أوغلو) ببلدية إسطنبول هم شريحة مهمة من المواطنين الذين كانوا يؤيدون حزب العدالة والتنمية ولكنهم سئموا من قيادات الحزب وشعاراتها الفارغة.