ليس بجديد أن تحضر سيرة "الشيخ الرئيس" ابن سينا في رواية، فقد سبق يوسف زيدان اثنان في هذا القبيل، الأول الكاتب المصري المولد، الفرنسي الجنسية جيلبر سينويه، بـ"ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان"، وترجمها إلى العربية التونسي آدم فتحي، والثاني الكاتب المصري الشاب محمد العدوي بـ"الرئيس". رواية زيدان عنوانها "فردقان... اعتقال الشيخ الرئيس" (دار الشروق/ القاهرة) ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة، علماً أنه سبق أن فاز في الجائزة ذاتها عام 2009، عن درّة أعماله الإبداعية "عزازيل"، التي تبدو لفرط جمالها نقمة على مبدعها، فكلّما كتب عملاً قورن بها، فتكون النتيجة دائماً بفارق واضح لصالح "عزازيل" التي لم يرقَ إلى قوتها أي من أعماله التالية التي تمثّلت في "النبطي" وثلاثيته التي ابتعد فيها عن التاريخ (محال، غوانتانامو، نور). في "فردقان"، يعود زيدان إلى التاريخ متناولاً بلاد ما وراء النهر وفارس بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، من خلال الشخصية الفريدة التي طاف اسمها العالم في مجال الطب والفلسفة ابن سينا، التي تبدو مغرية للكتابة عنها، خصوصاً في ما يتعلّق بسماتها المتناقضة المحيّرة.
"فردقان" هو اسم القلعة التي اعتُقل فيها ابن سينا لأشهر عدّة، وهذا ليس العمل الأول ليوسف زيدان الذي يحمل اسم سجن، فقد سبقه "غوانتانامو"، لكن يظلّ الفارق بين العملين بخلاف الزمن بين معاصر وموغل في القدم، أن أحدهما يركّز على حال المساجين والأساليب الوحشية لتعذيبهم، بينما الآخر خلا من ذلك البعد الذي كان كفيلاً بإثرائه.
تبدأ الرواية من نقطة تبدو صعبة ومتوترة في حياة ابن سينا، إذ إنّ "منصور المزدوج"، آمر سجن "فردقان" ينتظر ذلك السجين غير العادي ابن سينا الذي تمت التوصية بألّا يُهان في السجن، لتدور أحداث الرواية حول حياة الرئيس، عبر تقنيات سردية عدّة لنقل سيرة غيرية. ومن أهمها تقنية "الاسترجاع" التي تسمح للراوي بأن يستعيد نشأة الشيخ وحياته المتقلّبة بين النعيم ونقيضه ومنجزاته العلمية وظروف ضياع بعض كتبه. ولا يستعين زيدان بتلك التقنية للكشف عن حياة ابن سينا فقط، بل عن ماضي شخصيات الرواية أيضاً، وعادة ما تأتي عبر السؤال، أو حادث يذكّر الشيخ الرئيس بما مضى من حياته. واستعان زيدان أيضاً بتقنية "الاستباق" التي يوظّفها الراوي العليم كي يأتي بأحداث مستقبلية خارج زمن الرواية الفعلي المقتصر فقط على فترة سجنه، ليسهل عليه تتبّع مصائر شخصيات عمله وما حاق بهم، بما فيها موت ابن سينا.
ولعلّ من أهم أسباب اتجاه الكاتب إلى التاريخ ما يُسمّى بالإسقاط على الواقع، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بالسياسة والسلطة في وقت راهن، تاركاً للقارئ فرصة لتأويل الأحداث عبر تقنية معروفة في النظرية النقدية التداولية تُعرف بـ"الاستلزام التخاطبي" تُعنى بالكشف عمّا لا يُقال مباشرة في الخطابات، ومن ذلك في النص تركيز الرواية على رأي ابن سينا الذي كتبه في رسالته حول العسكر وأنهم يجب أن يبعدوا عن المدن، وأن مهمتهم الأساسية هي حماية الثغور وليس شؤون الحكم. ويفسر ضرورة بعدهم عن الحياة المدنية والتعامل مع المدنيين بأن العسكر بطبيعة عملهم، يميلون إلى العنف، فإذا اختلطوا بـ"المدنيين"غلب عليهم طبعهم. ويجعل زيدان من "العسكر" سبباً رئيساً في قسوة حياة ابن سينا التي حفلت بالمآسي، بما يُعرف عنهم من التآمر على منافسيهم ومن يجدون فيه خطراً على مكاسبهم وتلفيق التهم لخصومهم والاستعانة بمن يُعرفون اليوم بـ"المواطنين الشرفاء" كي يتهجّموا على معارضيهم لكسر شوكتهم. وهو ما حدث مع ابن سينا حين ألّبوا الناس عليه وجعلوهم يهاجمون منزله، متّهمين إياه بالكفر.
تشابه وتكرار
ولن يخفى على قارئ أعمال يوسف زيدان السابقة إن أُعطيت إليه هذه الرواية من دون اسم مؤلفها، أن ينسبها إليه، لتشابه القضايا المطروحة داخل هذا العمل، مع ما كان في مؤلفاته السابقة. وهو الأمر الذي يقودنا إلى أهم القضايا التي يناقشها هذا العمل ومنها "العنف الديني" وهو قضية تشغل زيدان حتى في كتابته الفكرية والبحثية مثل "اللاهوت العربي" و"دوامات التديّن". في "عزازيل"، سلّط الضوء على عنف رجال الدين المسيحيين في الإسكندرية، ضد من يخالف عقيدتهم قبيل الفتح الإسلامي. وفي "محال" و"غوانتانامو" و"نور"، سلّط أيضاً الضوء على هذه الزاوية والإرهاب في العصر الراهن. أما "فردقان"، فهي تتطرّق إلى العنف الذي ارتُكب باسم الدين، والصراعات المذهبية التي ضربت العالم الإسلامي سابقاً والتي تمتدّ ظلالها حتى الآن، كاشفاً عمّا قامت به الدولة الغزنوية بمذهبها السني من جرائم في الهند وفي بلاد ما وراء النهر ومعاداتها العلماء. صورة همجية يرسمها يوسف زيدان لتلك الدولة ذات الأصول التركية التي أسّست عاصمتها في مدينة غزنة، التي نسبوها إلى أنفسهم والتي تقع الآن داخل حدود دولة أفغانستان، ويعود إليها الفضل في نشر الإسلام في الهند.
المرأة المضطهدة
والقضية الثانية التي يظهر صداها داخل أعمال يوسف زيدان، وتتأكد داخل عمله الحالي، هي قضية المرأة التي يكشف زيدان عن الظلم الواقع عليها على مرّ الأزمان، وربما تكون تلك القضية أقدم القضايا التي ناقشها، مع أول رواياته "ظل الأفعى" التي يسرد فيها عبر تقنية الرسائل بين أم وابنتها، مكانة المرأة تاريخياً وتدرّجها من منزلة التقديس إلى التحقير والتدنيس في الوقت الحالي، والرواية على الرغم من أنها صدرت في 2006، إلّا أنّه يجعل أحداثها تدور في 2020. وفعل ذلك في رواية "النبطي" التي تتّخذ من سنوات عدّة سبقت الفتح الإسلامي لمصر زمناً لها، وفي "نور" التي يكشف فيها عمّا تعانيه المرأة في العصر الراهن في مصر. وفي "عزازيل" تظهر المرأة العالمة "هيباتيا" التي تُقتل على يد المتطرفين المسيحيين وتُسحل في شوارع الإسكندرية، وفي "فردقان" تبرز أيضاً قضية المرأة العالمة مع السيدة "ماهتاب". وداخل الرواية الأخيرة، يكشف عمّا عانته المرأة من سلب ونهب وبيع كالجاريات بسبب الحروب التي كانت بين المسلمين وبعضهم بعضاً، أو مع الهنود، ولكثرة السبي وقتها، رخصت أسعارهن وبات ثمنهنّ أكثر تدنّياً من الدواب.
ويمكن تلخيص بعض السمات الأخرى المشتركة في أعمال زيدان مع هذا العمل، في ما يلي: ولع يوسف زيدان بالإسكندرية بوصفها "مدينة العلم والفلسفة في الزمن القديم"، فلا تكاد تخلو رواية له منها، كما تظهر قضايا التصوّف والأفكار الفلسفية، إضافةً إلى اللغة الجزلة القوية وأحياناً المتكلّفة، بكثرة الوصف الذي يُثقل حركة السرد. وفي النهاية، يظلّ السؤال الدائم بعد كل قراءة لعمل جديد له: متى يكتب يوسف زيدان عملاً بقوة "عزازيل"؟