"ما زلتُ حتى يومنا هذا أغفل عن وجبة العشاء لو علمت مسبقاً أنني سأخرج لاحتساء الكحول، مكتفية على الأكثر بوجبة الفطور الصباحية"، تروي إليزابيث لـ"اندبندنت". "الأمر تلقائي بالنسبة إليّ الآن، شأنه شأن أي عادة راسخة. والحقيقة أنني لا أتخيل حياتي من دونه، فمجرد التفكير بذلك يُصيبني بالتوتر والقلق العارم".
وهنا، تذكر مدربة اللياقة البدنية صاحبة الثلاثين ربيعاً أنها تُعاني ظاهرة "فقدان الشهية والإفراط في الكحول" (Drunkorexia) غير المُعترف بها كواحدة من الاضطرابات الغذائية التي يُمكن تشخصيها.
وإليزابيث التي لا تُريد الكشف عن اسمها الحقيقي، ليست الوحيدة التي تُعاني هذه الحالة. ففي دراسة صدرت حديثاً عن "جامعة جنوب أستراليا" (South Australia University) ووصفَت "فقدان الشهية والإفراط في الكحول" بالعادة "المضرة والخطيرة" كونها تُجبر المصاب بها على استهلاك كمياتٍ محدودة من الطعام مقابل كميات مفرطة من الكحوليات، خوفاً من أي زيادة في الوزن، تبين أن 80 في المئة من الطالبات اللواتي شاركن في الدراسة والبالغ عددهن 479 طالبة، عانين هذه الظاهرة في غضون الأشهر الثلاثة الماضية.
وتقول إليزابيث إنه من الصعب عليها تحديد بداية معاناتها مع الكحول والطعام، لكنها تستدرك قائلة إن علاقتها بصورة الجسد كانت دائماً معقدة وغير صحية، بمعنى أنها لم تكن راضية يوماً عن شكلها.
"فخلال سنوات المراهقة، التحقتُ بمدرسة للبنات في إحدى أكثر مناطق البلاد رخاءً. هناك، كانت الفتيات حسناوات، لكن في الوقت نفسه مفعمات بمشاعر انعدام الأمان"، وتضيف إليزابيث. "أتذكر جيداً أنه لمّا بدأنا احتساء الكحول ونحن في السادسة عشرة من العمر، كنا نتبع شعار (الأكل غش)، أي أننا كنا نؤمن، وبشدة، أن الشرب على معدة خاوية يجعل المرء ثملاً بسرعة أكبر، كما أن الأكل قبل الخروج يُسبب النفخة. وبعد ذلك، أخذنا نحسب كمية السعرات الحرارية الموجودة في كل مشروب. ولمّا وصلنا إلى مجموعها، خرجنا بمبدأ عدم تناول المأكولات والكحوليات في يوم واحد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى هذا المنوال، تطوّرت لدى إليزابيث حالتي "فقدان الشهية العصبي" و"النهام العصابي" في سن السابعة عشرة. ومذاك وهي ترسم جداول مفصّلة لكل غذاء أو مشروب يدخل فمها.
وتتابع إليزابيث حديثها قائلة: "كنتُ أخفّض سعراتي وأقترض السعرات من أيام أخرى. كنت أحاول أن أحدّ معدلي اليومي منها عند ما دون الـ500 سعر حراري. وفي اليوم الذي كنت أشرب فيه الكحول، لم أكن لآكل طوال اليوم أو بعدها بيوم أو يومين. تلك كانت قمة معاناتي مع اضطرابات الطعام. وفي بداية العشرينيات، حسّنتُ عاداتي الغذائية. لكنني لم أتوقف، ولو يوماً واحداً، عن تعديل غذائي وسعراتي الحرارية من الطعام بما يتوافق مع معدل استهلاكي للكحول. وأذكر في تلك الفترة أنني كنتُ أكثر من مشروب "الكلبة النحيفة" Skinny Bitch المعدّ من الفودكا وعصير الحامض، وكنت أُفضله على بقية المشروبات الكحولية، لأنه يحتوي على أدنى كمية من السعرات الحرارية بينها جميعاً، وبقيتُ على هذه الحال سنوات".
وحسب كلماتها، فإن إليزابيث لا تزال حتى اليوم منغمسة في علاقة معقدة مع التمارين واستهلاك الكحول، إذ تُجبر نفسها على ممارسة الرياضة قبل الشرب أو بعده لمعادلة السعرات الحرارية الزائدة.
"مرة بعد أخرى، كنتُ أقول لنفسي (هيا يا فتاة، 20 دقيقة إضافية بعد)، ولا أتوقف حتى تخور قواي وأتأكد من خسارتي ما يكفي من السعرات الحرارية حتى أتمكّن من شرب الكحول"، تُخبر إليزابيث. "أعتقد أن الأمر غريب لأن فقدان الشهية والإفراط في الكحول هو شكل أقل شيوعاً من أشكال الاضطرابات الغذائية. وقد يعتقد الناس بوجه عام أنهم يفهمون الفرق بين (فقدان الشهية العصبي) وصورة الطفل الهزيل وبين (النهم العصابي) وصورة الفتاة التي تحشر رأسها في كرسي الحمام. لكنهم لا يدرون أن هاتين الظاهرتين أكثر تعقيداً واختلافاً من ذلك بكثير".
وفي المقابل، فإنّ اضطراب "فقدان الشهية والإفراط في الكحول" لا يأخذ عشر معشار حقه من الاهتمام، وغالباً ما يتستر تحت عباءة "الأكل غش" Eating is cheating، أو عدم الرغبة في الانتفاخ مع الاكتفاء بتناول الكوكتيلات والمشروبات الروحية التي تحتوي على نسبة متدنية من السعرات الحرارية.
"من الواضح أنني على علمٍ تام بمخاطر استبدال السعرات الحرارية من الطعام بتلك من الكحول، لكنني معتادة على هذه الطريقة في التصرف، ويصعب عليّ التخلي عنها. وصحيح أن علاقتي ووعيي بالسعرات الحرارية الموجودة في المواد الغذائية الصلبة والسائلة غير سوية وخطيرة، لكن التخلص من العادات القديمة ليس بالأمر السهل للأسف"، تشرح إليزابيث.
هذا في ما يتعلق بإليزابيث، أمّا في ما يتعلق بماريا التي غيرنا اسمها حفاظاً على سرية هويتها، فتقول إنها وطّدت علاقتها المشبوهة بالكحول والطعام لمّا كانت في موعد غرامي مع أحد الشبان وعمرها 21 عاماً.
"يومها، اشتريتُ فستاناً جديداً، واستقللت القطار معه إلى لندن"، تسرد ماريا. "ونحن في الطريق، وضع الشاب ذراعه حول خصري. لا أدري لحظتها ما الذي حدث، لكنني اندفعتُ بعدها لخفض معدل استهلاكي اليومي من الغذاء، وخسرتُ الكثير من وزني. كل ما كنتُ أقتاته حينها هو حفنة من المقرمشات وطبق من الحساء. وكنتُ أتفقد الميزان عدة مرات في اليوم".
وتُضيف ماريا، ابنة التاسعة والعشرين من العمر، أن معاناتها بدأت لمّا قررت التوقف عن تناول الطعام قبل الخروج لشرب الكحول، مكتفيةً بطبق من حبوب الفطور على العشاء، لشدة قلقها من استهلاك كميات زائدة من السعرات الحرارية. لكن هذه المشكلة لم تعد قائمة، وباتت طي النسيان الآن.
"كنتُ أعتبر أنني بأمس الحاجة لأن أظهر للعالم بمظهر الجميلة والنحيفة، الممشوقة القوام"، تحكي ماريا. "أيقنتُ أن الشرب على معدة فارغة يؤثر في الدماغ بشكلٍ أسرع، لكنني لم آبه للأمر فعلاً. فكل ما كان يشغلني آنذاك هو غنى المسكرات بالسعرات الحرارية، وعدم رغبتي في الحصول على سعرات إضافية من الطعام. ولمّا بلغتُ سن الثالثة والعشرين، تعرفتُ إلى شاب جديد، وكان من الصعب عليّ أن آكل أمامه. وأنا معه، كنتُ أتظاهر بأنني لا أحب الطعام مع أنني أحبه جداً. كان يصطحبني إلى مطاعم رائعة، وكل ما كنتُ أفعله هناك هو اللعب بالطبق من دون تذوقه. أتذكر أنني كنت أدعه يقود مسافة طويلة ليأتني بزجاجة من الخمر. كنتُ أحب الشعور بنحافتي وأنا في جوار الفتيان، لكن هذا الشعور غير صحيّ البتة. عندما كنتُ أصغر سناً، كنتُ أصبَّ الكثير من الاهتمام على مظهري الخارجي. تلك كانت طريقتي في تقييم نفسي".
وبالعودة إلى الدراسة الأسترالية التي نُشرت الأسبوع الماضي، فقد وجد معدّوها أن ثلث الطالبات الجامعيات الأستراليات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و24 عاماً يمتنعن بشكلٍ متكرر ومتعمد عن أكل الوجبات، ويستهلكنَ المشروبات الكحولية القليلة السعرات أو الخالية من السكر، مع الحرص في معظم الأوقات على "تنظيف أمعائهن أو ممارسة التمارين" بعد الإسراف في الشرب لحرق السعرات الحرارية الزائدة.
وهذه، برأي أليشيا باول جونز، الطبيبة النفسية العيادية التي أشرفت على الدراسة الأولى من نوعها في العالم، نتائج صادمة. وعلى حد تعبيرها: "ثمة عدد لا يُستهان به من الشابات اللواتي يُعرضن صحتهن الجسدية والنفسية لمضاعفات غاية في الخطورة. في الإجمال، تزن النساء أقل من الرجال لوجود خطط ونيات محددة خلف سلوكيات كل فئة. وصحيح أن (فقدان الشهية والإفراط في الكحول) ليس مصطلحاً عيادياً معتمداً، لكنه وصفٌ حقيقي ودقيق لنمطٍ سلوكي خطير، إذا ما فهمناه سنتمكّن من توفير الحماية الضرورية للنساء في ظل الخوف المتفشي من القواعد الاجتماعية، لتعاطي الكحول وضغط الأقران والضغوط الناجمة عن الشكل وصورة الجسم".
وتُردف السيدة باول جونز، التي تعمل في قطاع الصحة النفسية للشبان، أن "الإفراط في شرب الكحول يزيد جذرياً خطر الإصابة بنقص السكر في الدم والتليف الكبدي وقصور التغذية وتلف القلب والدماغ والاكتئاب والقلق المزمن والاختلالات الإدراكية، إذا ما كان مصحوباً بأنماط غذائية مضطربة وغير صحية".
وفي السياق ذاته، يلفت توم كوين من جمعية "بيت" Beat الخيرية الرائدة في تقديم المساعدة للمصابين باضطرابات غذائية في المملكة المتحدة إلى أن "فقدان الشهية والإفراط في الكحول" ليس مرضاً نفسياً يُمكن تشخيصه. لكننا نعلم جيداً أن بعض الذين يعانون اضطرابات غذائية، على شاكلة "النهام العصابي" يستهلكون الكحول بطريقة غير صحية.
"في نظر البعض، يُمكن لتعاطي الكحوليات حتى الثمالة أن يتأتى عن الشعور بفقدان السيطرة. وعلى هذا الأساس، يُمكن لكل من يُعاني اضطراباً غذائياً، ويعيش حالة فقدان السيطرة هذه، أن يحاول استرجاع قدرته على التحكّم بمجريات حياته وسلوكياته عن طريق تقييد استهلاكه اليومي للسعرات الحرارية".
وفي الختام، يدعو كوين كل من يخشى على صحته الاتصال بطبيبه في أقرب فرصة ممكنة.
© The Independent