تشير دراسة جديدة نشرتها مجلة "نيتشور جينيتيكس" (علم الوراثة الطبيعي) العلمية إلى نشوء اضطراب أنوريكسيا في الجسم وفي العقل معاً.
شعرت بادئ الأمر بالارتياح عند مطالعة الخبر. فبعد تعايشي مع الاضطراب لفترة أربع سنوات صرت اعتبر أية دراسة تتناول الموضوع جيدة وضرورية أيضاً. لأن اضطرابات الأكل مشكلة تؤثر إلى يومنا هذا في 1.25 مليون شخص في المملكة المتحدة تقريباً حسب معلومات المنظمة الخيرية البريطانية "بيت".
لكنني راجعت الدراسة بعد أيام عدة كي أتعمق في استنتاجاتها فأزعجني ما خلُصت اليه ، ولا سيّما الجزء الذي يقول بأنّ الأشخاص الذين يصيبهم هذا الاضطراب "لديهم استعداد جيني لارتفاع معدلات الأيض في أجسامهم ولتخزين نسبة أقل من الدهون فيها، ولنشاط جسدي زائد وازدياد".
لا أتحدر شخصياً من عائلة تفخر بإرث مزعج من ارتفاع معدلات الأيض، أو يتمرن أفرادها معاً تحضيراً لخوض نصف ماراثون مرتين في الشهر، أو يتناولون وجبات غنية بالبروتين، ومع ذلك قضيت فترة من حياتي أجوّع نفسي طوال أيام وحتى أسابيع.
ليس من الممكن بالتأكيد أن يكون "لدى أي منا استعداد وراثي" للحدّ من كمية طعامه؟ هذا ما يفعله 20% من المصابين باضطراب أنوريكسيا إلى آخر حياتهم . ويصل بهم الأمر أحياناً إلى الموت، فلنتذكر هنا الحالة المأساوية التي أودت بحياة الشابة آفريل هارت التي توفيت في العام 2017 عن 19 عاماً بعد صراع دام 4 سنوات مع هذا المرض.
أستطيع اليوم أن أقرأ هذه الاستنتاجات وأن أفكّر بها وأخلص إلى قرار منطقي حول معناها كما أراه، وخصوصاً ما تعنيه بالنسبة لجسمي وعقلي. لكن لم يكن هذا الوضع ممكناً قبل أربع سنوات حين كنت في خضم معركتي مع أنوريكسيا واضطراب البوليميا (الشره المرضي العصبي) والإكتئاب. فلو قرأت هذه الدراسة عندها كنت سأشعر بضربة موجعة، إذ كان روتيني اليومي كئيباً أساساً (استيقظ وأتفادى الطعام ثم أتفادى الناس لأتفادى بعدها الطعام ثم أنام وأعيد الكرّة في اليوم التالي). كنت سأحسّ كما لو كانوا يقولون لي أنه لا يجب أن اعاني من أنوريكسيا لأنني لا أحملها في جيناتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك في وجود دواعٍ للبحث في الجانب الجسدي للاضطراب مثلما تفعل هذه الدراسة. فهو قبل كل شيء اضطراب عقلي ونفسي يتجلّى من خلال أعراض واضحة جسدياً. وكلّما زادت محفزات الاضطراب يتناقص وزن المصاب. في عصر برامج الواقع مثل "جزيرة الحب"، التي يسمح لمدراء قناة "آي تي في" التي تبثه بأن يبرروا غياب التنوع في الأحجام والأجسام في برنامجهم من خلال القول إن القصد من ذلك "دفع الناس للانجذاب إلى بعضهم بعضاً"، صار من الجوهري فتح نقاشات تركز على أجسامنا كما عقولنا. وهذا هو الحال تماماً مع بروز ظواهر جديدة مثل اختلال البنية العضلية التي "يتضخم" فيها حجم الأشخاص دون أن يدركوا ضخامة الكتلة العضلية التي يملكونها أصلاً . لكن يبدو من الخطأ أن نحدّ فداحة أنوريكسيا وهي مرض يتجلى عقلياً، ونعزوها إلى قلة الدهون في الجسم والميل إلى الركض صباحاً.
يغامر الأطباء من خلال بحثهم في احتمال نشوء الاضطراب في الجسم أولاً بتضخيم أحد أكبر اساءات الفهم المتعلقة بالتوعية حول مرض أنوريكسيا وهو أنّ الشكل الخارجي للمصابين بهذا الاضطراب متشابه، ويجب أن يكون كذلك.
فالعوامل الثلاثة الأساسية في هذه الدراسة الجديدة وهي الأيض والتمارين الجسدية والدهون في الجسم، تربط أنوريكسيا بالمظهر الخارجي للشخص. لكن يجري تذكيرنا مرة تلو الأخرى في عام 2019 أنّ هذا المعتقد خاطىء، إذ يمكن أن يعاني أحدهم من الاضطراب مع أن شكله صحيّ إلى حدٍ ما من حيث الحجم. وفي الواقع يصارع المصابون الآثار النفسية لأنوريكسيا والخصائص الملازمة لهذا الاضطراب بدءاً بالارتياب الشديد والاكتئاب ووصولاً إلى الخوف الشديد والدائم من زيادة الوزن.
إنّ استيعاب الأمراض على أسس جسدية أسهل من فهمها في ضوء معطيات نفسية ولذلك يدور الصراع في المجال الطبي حول العالم من أجل مكافحة الأمراض العقلية. ومن الأسهل التفكير بأن بعضنا فقط لديهم استعداد وراثي للإصابة بنوع معيّن من الأمراض العقلية، وأنّ جينات البعض فقط بالتالي هي التي تسبّب هذا المرض أو ذاك لأن هذا يقلّل من أعداد الناس الذين يمكن أن يؤذيهم المرض. لكن أنوريكسيا مثل الكثير من الأمراض العقلية والذهنية ليست نادٍ خاص للأسف. فأيّ شخص يستطيع الانضمام إليه. ثقوا بي لأنني أعرف ذلك جيداً.
لذلك، صحيحٌ أنّ إجراء الأبحاث حول اضطرابات الأكل ضرورة كيفما كانت هذه الأبحاث وأننا بحاجة للمزيد منها. لكن تذكّرنا هذه الدراسة بأنه رغم كل التطور الذي نعتقد أننا وصلنا إليه في عصر التوعية بالأمراض العقلية ما يزال الإغراء موجود، وعلى نحو خطير، بمحاولة تفسير المرض العقلي على أنه مرض جسدي، لأننا نستطيع في هذه الحالة بالتأكيد إيجاد علاج يشفيه.
© The Independent