كثيرة هي الصور النمطية، والقوالب الثقافية الجامدة التي يحاربها مغنو "الراب" في لبنان. ويوماً بعد يوم، يثبّت هؤلاء أقدامهم داخل زحام الساحة الفنية حافرين مسيرتهم بتجارب واقعية مليئة بالوجع والتهميش ومواجهة التمييز.
تزدهر في مدينة طرابلس شمال لبنان، ظاهرة "فرق الراب" التي خرجت عن المألوف بكلماتها وطروحاتها، وكرّست عملها لخدمة قضايا إنسانية واجتماعية، ومع الوقت يتطور عمل "الهواة" ليصبح أكثر حرفية، ويمزج بين تيارات الراب العابرة للجغرافيا، ومعاناة أهالي المناطق الشعبية في لبنان.
"ضربة قاضية" للعنصرية
ينطلق المؤدي أحمد كروم الملقب بـ "أسمر" من تجربته الشخصية، محارباً بأغنياته، العنصرية والتمييز ضد أصحاب البشرة السمراء في لبنان.
ابن الـ 21 سنة ولد لأب لبناني من مدينة الميناء، وأم غانية الأصل. حقق من خلال الراب ما كان يُحب أن يعبّر عنه طوال سنوات، واختصر في أغانيه مراحل عاشها، التمييز خلال الطفولة، والتنمّر الذي مارسه رفاقه عليه، واغتراب المراهقة بسبب فرقة الوالدين، ومرحلة كسر الصمت وغناء الراب.
بعد نجاح أول أعماله "الضربة القاضية" التي توجه فيها للدولة من أجل الالتفات إلى المهمشين، شُبّه "أسمر" بالمغني الأميركي الشهير 2pac، ما رفع من معنوياته.
ويتطلع كروم لخدمة قضيته فهو عايش تأصُّل التمييز العنصري بسبب لون البشرة في الثقافة اللبنانية، موضحاً أن الراب يُساعد الهواة على تطوير الذات.
وتمكّن أسمر من تحقيق قفزة كبيرة مع أغنيته الجديدة "ليش لأني أسود" التي صورها على طريقة الفيديو كليب، معبّراً فيها عن كلمات منطلقة من حياته، وتقليل المسافات التي تفصله عمن يعيش معهم، والتوق للوصال مجدداً مع والدته في غانا.
"مكتومو القيد" موجودون
شكلت أحداث الاقتتال الأهلي في طرابلس فرصة لظهور العديد من فرق الراب، وتقدّم فرقة straight outta نموذجاً عن تلك الجهود الفنية لرأب الصدع بين أهالي جبل محسن، وباب التبانة (منطقتان في شمال لبنان شهدتا عشرات الجولات القتالية الدامية على خلفيات طائفية وسياسية).
ساهم يوسف ابراهيم (El Asso) في نجاح تجربة تشكيل واحدة من أهم "فرق الهيب هوب" في المنطقة. قدّم الشباب صورة مختلفة عن المنطقة، وإمكانية التعايش بين "شريحة استثمرت السياسة في اختلافاتهم وخصوصيتهم". يتحدث ابراهيم عن ذروة 2017 التي أقامت فيها الفرقة عشرات المهرجانات، التي أعطت الأمل للشباب بلبنان جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحدد المغني الشاب "الفقر"عاملاً جامعاً لشباب الفرقة التي وصل عدد أفرادها إلى 30 مغنٍ وراقص "بريك دانس"، وتحوّلت إلى خريطة للسلم الأهلي الدائم الذي لا يعترف بخطوط التماس المصطنعة، فالشباب كانوا من كافة الأحياء في التبانة، والقبة، والزاهرية، حيث جمع الفن ما لم تتمكن جلسات المفاوضات والسياسة من فعله. كما غنى أخيراً أغنية "إنسان طموح" التي تدعو الشباب اللبناني إلى أن يكون قوياً ولا يرضخ للأعباء المتزايدة.
يتحدث "إل أسو" عن بيئة ملائمة لفن الراب في طرابلس، إلى جانب غنى المواضيع الاجتماعية. ويستعد لتقديم "الدلعونا" على نمط الراب وكسر المألوف، وتصوير فيلم قصير.
تعتبر قضية "مكتومو القيد" مسألة لصيقة بالنسبة إليه فهو ابن لأم لبنانية، وأب سوري منح الجنسية اللبنانية بموجب مرسوم عام 1994 إلا أن يوسف ابراهيم لم يكتسب الهوية اللبنانية حتى اللحظة لأسباب مادية.
هذه المعاناة دفعته لتقديم أغنية تشرح للرأي العام هذا المطلب المحق، وصوّر فيلم Mute (صامت) مع المخرج المكسيكي ريكاردو أراغون لتسليط الضوء على مشكلته لأن مكتوم القيد "صامت" وصوته غير مسموع.
المساواة "تركها عليي"
تجسد فرقة "تركها عليي" حقيقة الواقع الاجتماعي في لبنان والمشرق، وتمتاز تجربتها بغنى المواضيع والمشاكل التي تعالجها. بدأ أفرادها الغناء بصورة منفردة، قبل أن يتحد أحمد طليس، وديان حمداش، ومحمد حسين في فرقة واحدة، بالتعاون مع وسيم عبيد.
عالجت الفرقة قضية "الأطفال المشردين، ويعتبر محمد حسين أن الفن في خدمة المجتمع، وأعمال الفرقة هادفة تنطلق من قضية معينة، ومن خلفية اجتماعية لأعضائها، فهم شبان ينتمون إلى فئات شعبية وليسوا من طبقات ميسورة.
انتقلت الفرقة إلى مرحلة جديدة من خلال فيديو كليب يلقي الضوء على الحياة الاجتماعية قبل مواقع التواصل وبعد شيوع أجواء العزلة.
شاركت الفرقة في الانتفاضة اللبنانية (التي انطلقت في أكتوبر / تشرين الأول 2019)، وتعاونت مع فرقة الجيل الجديد لتقديم أغنية "الثورة اللبنانية" التي صدحت في كافة الساحات لأنها قدّمت الواقع كما هو، والظلم الذي يتعرض له المواطن حيث أصبحت الحقوق الأساسية حلم لشباب لبنان.
يجزم حسين أن فرق الراب الطرابلسية كسرت الصور النمطية حول فنون الشارع، فهي تعكس معاناة الناس وليست "هابطة" وليست "أغاني الشتائم" والكلام النابي كما يُشاع.
أدى النمط الجديد من الراب إلى تقريبه للشرائح النخبوية فدخل مسارح المراكز الثقافية بعدما كان ممنوعاً من المشاركة بسبب النظرة النمطية الخاطئة.
تسعى الفرقة إلى تغيير صورة المجتمع عن الراب فهي لا تتعاطى المخدرات، وليس لديها سلوكيات منحرفة، ولا تعمل لهدم العلاقات الاجتماعية الأسرية.
ويستغرب أعضاء الفرقة تعميم الصورة السلبية عن الراب، موضحين أن الفريق أطلق حملة "لا للمخدرات" واتفق مع 12 مغني راب لتقديم أوبريت للتوعية من مخاطر المخدرات.
تطمح الفرقة إلى إشعال حنين الطفولة من خلال صوت الشابة ديان حمداش، وتجديد أغنيات الفيلم الكرتوني ريمي.
كما أسهم وجود فتاة في الفرقة إلى تقديم صورة عن المساواة الجندرية، وأن للأنثى وجوداً وصوتاً مستقلاً.
في المقابل، يطمح محمد حسين لشد انتباه شركات الإنتاج، لأن أغاني الراب تلاقي صدى قوياً في أوساط الشباب، وهي تعكس حقيقة المجتمع وتمتاز بالحرية والتجديد الفني، ولا تقتصر على "أغاني الحب والكره".
صوت الجيل الجديد
من جهة ثانية، يختصر اسم فرقة "الجيل الجديد" نظرة جديدة للفن، والموسيقى، والثقافة، وهي تتألف من شخصيات متمردة تنعكس على نمط ولحن الأغاني التي تنطلق من تحدي الآخر، والمجتمع، والسلطة. ويشكل الرباعي نور حلاب، وإيهاب دريعي، ومصطفى سيف، وخضر نعمان الركائز التي تقدم مرآة لاهتمامات الشباب اللبناني.
تأسست الفرقة عام 2013 بعد انفجار "التقوى والسلام"، حيث قدّم نور حلاب، وإيهاب دريعي أغنية ثنائية تحدثت عن أوضاع طرابلس.
ويرى نور حلاب أن فرقتهم تدمج بين الراب وأسلوب RNB الذي يعتمد تلحين الصوت واللفظ، لذلك فهي إلى جانب الأغاني الهادفة تقدّم مواجهة "أغاني التحدي" بين اسمين أو أكثر يستعرضان قدراتهم.
وتعبّر الفرقة عن فخرها بالمكانة التي بلغتها رغم كل العوائق، لذلك تحضّر أغنية بعنوان "ترأسنا الساحة اللبنانية" للجزم بموقعها المتقدم في ميدان الراب. ويؤمن حلاب بأن المنافسة الصادقة هي الطريق نحو انتشار الراب وتطوير قدرات الهواة بعيداً عن الهدم.
ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في فك الحصارعن المواهب الشابة التي لا تملك التمويل الكافي للترويج عبر وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية، لذلك فإن فن الفرقة يتناسب مع جيل "فيسبوك" والهواتف الذكية.