عندما نشتري عبوة المياه البلاستيكية المعبأة من المتجر ونجد أن سعرها من بين الأرخص مقارنة بسائر البضائع الموجودة، فإننا لا نعير هذه العبوة أية حشرية، فنحن بحاجة لها في كل الأحوال لأننا لا يمكننا أن نعيش بلا مياه نروي بها عطشنا لنكفي حاجة أجسادنا منها، وهي التي تتكوّن في 70 في المئة منها من الماء. فالإنسان يمكنه العيش بلا طعام لمدة قد تبلغ العشرة أيام، لكنه لن يتمكن من قضاء أسبوع بلا قطرة مياه. وفي الحالات العادية يحتاج إلى ملء جوفه بما يقارب 3 ليترات يومياً منها، لذا فشراء عبوة المياه المعبأة هي أمر مفروغ منه، وبما أنها رخيصة الثمن، فسنتشريها بلا أي سؤال عن سبب وجودها، وعن المواد التي تحتوي عليها، وإذا ما كانت فعلاً مياهاً نظيفة كلياً أم لا.
تلوّث مياه الأرض
إن نسبة المياه العذبة من مياه الأرض هي 3 في المئة مقابل 97 في المئة للمياه المالحة، وهذه النسبة الضئيلة أصيب معظمها بالتلوّث نتيجة الحروب وتلوث هواء الأرض وتزايد عدد السكان. لذلك لم يعد بالإمكان شرب المياه مباشرة من مصادرها الطبيعية من دون اللجوء إلى التعقيم والتكرير. وعلى الرغم من ذلك فإن المياه المعبأة والمكرّرة ليست في متناول جميع سكان الأرض، بل وبحسب الأرقام فإن ما يقارب الـ5 ملايين إنسان يموتون سنوياً من جرَّاء إصابتهم بأمراض انتقلت إليهم من خلال مياه الشرب في دول العالم الفقيرة، كالهند وأفريقيا وباكستان وبعض دول أميركا اللاتينية. وبحسب بعض الإحصاءات مثلاً، فإن 90 في المئة من المياه المبتذلة في أفريقيا يجري تصريفها في الأنهار من دون معالجة، مما تسبب في تلوث 75 في المئة من أنهار القارة، وتؤدي إلى وفاة مليوني طفل سنوياً. وقد أدّت النزاعات التي نشبت في يوغوسلافيا السابقة إلى تلويث مياه نهر الدانوب. وخلال حرب الخليج الأولى تعرضت سدود العراق الثمانية للقصف، ودمرت أربع مضخات رئيسة للمياه من أصل سبع مما أدى إلى تحويل مياه الصرف الصحي إلى نهر دجلة. وخلال الإبادة الجماعية التي عرفتها رواندا تم إلقاء آلاف الجثث في الآبار والأنهار ما أدى إلى تلوث مصادر المياه، وهلاك الآلاف إما عطشاً وإما من جرَّاء شربهم لهذه المياه الملوثة.
توقعات صادمة
هذا بخصوص المياه السطحية، إلا أن المياه الجوفية التي تختزنها الأرض فقد أصيب قسم منها بالتلوث أيضاً من جراء طمر النفايات التي ينتجها البشر سنوياً والتي تبلغ مليارات من الأطنان. وقد تم سحب المياه الجوفية في معظم مناطق العالم من دون حساب أو دراية لكميتها وللمدة الكافية لاستنفادها أو لعودتها إلى حجمها الطبيعي. فقد نفدت مخزونات المياه الجوفية في مناطق شاسعة من أستراليا، وبعض أنحاء الشرق الأوسط. وفي أميركا، تعاني حوالى ست وثلاثون ولاية أميركية من نقص في المياه، مع احتمال وصول النقص إلى مستوى "القحط" في شرق البلاد وجنوبها. على سبيل المثال، ليس لدى ولاية نيو مكسيكو احتياطي من الماء يكفيها لأكثر من السنوات العشر المقبلة، في حين تستورد ولاية أريزونا الصحراوية كل ما تشربه من المياه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب توقعات الدراسات الصادرة عن الأمم المتحدة فأنه بحلول عام 2025 ستكفي كمية المياه العذبة المتوافرة اليوم شخصاً واحداً من ثلاثة. وتستند الأمم المتحدة إلى معلومات مهمة منها أنه في روسيا أصبح 75 في المئة من المياه السطحية و30 في المئة من المياه الجوفية ملوثاً، إلى درجة تجعله غير صالح للاستهلاك البشري. أما في أوروبا فمن بين أكبر خمسين نهراً، هناك خمسة أنهر فقط لا تزال نقية. أما بحيرات أفريقيا البالغ عددها 677 بحيرة، فقد أصبحت كلها ملوثة. وتقلّصت بحيرة تشاد بمقدار 90 في المئة بسبب الجفاف. وفي إيطاليا، جفّ وادي نهر "البو" الذي كان يتكفل بري ثلث الزراعة في إيطاليا. وفي الصين أيضاً تلوّث نحو 80 في المئة من أنهار البلاد إلى مستوى انعدام الحياة المائية في معظمها.
لنبيع المياه في العبوات
بما أن حاجة الإنسان إلى مياه الشرب ضرورية لبقائه على قيد الحياة، وبما أن هذه المياه غير متوفرة في معظم دول العالم، وبما أن الهوة لا تزال تزداد اتساعاً في السباق ما بين نمو المدن (وبخاصة في العالم الثالث) من جهة، وقدرات الجهات الحكومية على إنشاء ما يكفي من محطات التكرير وتحديث شبكات سحب المياه إلى المنازل، جاءت فكرة تعبئة المياه في قناني بلاستيكية تراوحت في أحجامها ما بين ربع ليتر وعشرين ليتراً. وبات يتم توصيلها إلى البيوت. فنشأت على حافتها استثمارات كبرى تبدأ من معامل صناعة قناني البلاستيك، ومن ثم معامل تكرير المياه ومن بعدها شركات التوزيع الكبرى، ثم شركات التوزيع الصغرى حتى المتاجر المحلية في كل حي من أحياء العالم المسكون. وهذه استثمارات لن تنضب. فقد ينضب النفط، وربما يعتاد البشر على العيش من دونه أو إيجاد بدائل له لإنتاج الطاقة، لكن لا يمكن أن ينضب الماء لأنه سبب بقاء الإنسان على قيد الحياة. بل ويقول جميع المحللين الاستراتيجيين بلا استثناء إن الحروب المقبلة هي حروب المياه بعدما كانت حروب النفط. وتقول الأرقام والإحصاءات إن الاستثمارات في قطاع المياه المعبأة تقارب التريليون دولار سنوياً.
وفي الأرقام الأولية، فإن تصنيع قنينة واحدة وتعبئتها يتطلب من الماء ما بين ضعفي وثلاثة أضعاف مقدار المياه الموجودة بداخلها. ويتطلب تصنيع عبوات المياه البلاستيكية في الولايات المتحدة الأميركية إنتاج مليون طن من مادة PET، وهذا ما يستهلك سبعة عشر مليون برميل من النفط.
ومقابل كل قنينة مياه نستهلكها، نكون قد استهلكنا بشكل غير مباشر ما يعادل ربعها من البترول، ما بين اللازم منه لتصنيع العبوة، واللازم للنقل والشحن. وإنتاج طن واحد من مادة PET، يؤدي إلى انبعاث ثلاثة أطنان من ثاني أكسيد الكربون في الهواء. وينتج العالم حالياً نحو2.7 مليون طن سنوياً من البلاستيك المستخدم في التعبئة. وهذا البلاستيك ينتقل إلى جوف التربة بعد الاستخدام حيث تستغرق عملية تحلله ما بين 400 و1000 سنة.
هل المياه المعبأة... نظيفة؟
بشكل لا إرادي يعتقد الجميع أن المياه المعبأة نظيفة كلياً. فكمية الإعلان والدعاية التي تصاحب تجارة هذه المياه كافية لإقناع الجميع بأنها نقية، فهذه من "أعالي جبال الألب"، وتلك من "النبع الصافي"، وهذه "خاضعة لأعلى شروط الرقابة والنظافة"، إلخ... لكن الحقيقة ليست كذلك البتة.
ففي دراسة جامعية أميركية أجريت مقارنة بين 57 عينة "من زجاجات المياه المعبأة"، وبين المياه التي تصل إلى المنزل عبر الشبكات الحكومية بولاية كليفلاند، بيّنت أن دزينة على الأقل من المياه المعبأة التي شملها التحليل تحتوي على عشرة أضعاف المحتوى البكتيري الموجود بعينة مياه الصنبور العادية. وفي دراسة أخرى وجد "مجلس حماية المصادر الطبيعية"(NRDC) أن العدد البكتيري في عينات بعض العلامات التجارية المنتِجة لهذه المياه، بلغ حداً يتجاوز المقبول به. لكن في النهاية اتفق الجميع على "أنك لن تمرض من شرب هذه المياه".
وتشير الاختبارات إلى وجود ملوثات بعبوات مرّت عليها فترة من تاريخ الإنتاج. هذه الملوثات يشار إليها بالحرفين اللاتينيين "ND" أي لم يتم اكتشافها (Not detected). وهذه الملوثات لم تأت من المياه ذاتها، وإنما من العبوات البلاستيكية التي تحويها. حيث تصنع أغلب عبوات المياه المعبأة من مادة البولي إيثيلين تيريفاثاليت المعروفة بـ "PET" اختصاراً. هذه المادة مشتقة من البترول، أضيفت إليها مواد أخرى لإكسابها المرونة واللون والمتانة. وتناول جرعات صغيرة من هذا العنصر تسبّب الدوار وفتور النشاط الوظيفي، وأما الجرعات الكبيرة، فتسبب الغثيان والقيء وربما الوفاة. وأظهرت الاختبارات التي أجرتها مجموعة العمل البيئي، وهي منظمة مقرها واشنطن، أن قناني المياه المعبأة، من أشهر الماركات، تحتوي على أنواع من الملوثات من ضمنها مواد كيميائية تسبب السرطان بنسبة تزيد ثلاث مرات على المستوى الذي حددته سلطات ولاية كاليفورنيا الصحية. وقد قال الدكتور ديفيد كاربنتر مدير معهد الصحة والبيئة في جامعة نيويورك الذي شارك بالدراسة، إن أخطر الملوثات تمثلت في مركبات "الترايهالوميثان"، وهي مركبات قد تسبب أمراض السرطان.