خمسة آلاف سنة عمر كركوك وشاهدتها قلعتها التي يطلق عليها (قلعة السلوقيين)، تلك المدينة العراقية التي أطلق النظام السابق على المحافظة التي هي مركزها "التأميم" في إشارة إلى تأميم النفط العراقي من الشركات النفطية الأجنبية عام 1972.
(بابا كركر) أول حقول النفط
حين بدأت عملها من كركوك منتصف العشرينات من القرن الماضي، من أقدم حقل نفطي عراقي في (بابا كركر)، وجراء التأميم الذي أدخل البلاد في حروب لها أول وليس لها آخر، وألّب عليه العالم الغربي كله حتى سقوطه عام 2003، من دون أن يتعظ من تجربة الزعيم الإيراني محمد مصدق الذي تسّرع في تأميم النفط الإيراني منتصف الخمسينيات التي قادته لحتفه في ما بعد.
مدينة النار الأزلية
لكن كركوك التي يسميها العراقيون منذ مطلع القرن الماضي بـ "مدينة النار الأزلية" لوجود شعلة الغاز المحترق بقربها دوماً والمهدور منذ عقود والمنبعث من مناطق النفط، لن تهدأ يوماً في تاريخها نتيجة تصارع الجيوش التي غزتها من دول وإمبراطوريات حكمت الشرق كالبابليين والآشوريين والاخمينيين والسلوقيين والبارثيين والساسانيين والعرب المسلمين ومن ثم العثمانيين، حتى تمكن الاستعمار الإنجليزي بدهاء نوري سعيد باشا عزيز الحكم الملكي الأسبق من ضمّ ولاية الموصل إلى العراق وانتزاعها من سلطة العثمانيين والترك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مدينة الخطر المحدق
طيلة هذه العقود لم تنم كركوك ليلة هادئة في حياتها إلا والخطر يتهددها نتيجة تعاقب الولاة والغزاة عليها وأطماع النفط والغاز الذي يسيل له اللعاب، حتى آخر معركة خاضها العراق زمن حيدر العبادي 2017 بعد أن سيطرت عليها قوات البيشمركة بدعوى حمايتها من خطر "داعش" الذي احتل أجزاء من مدن حولها دخلها الجيش العراقي عنوة بعد طرده لـ "داعش" وسيطرته عليها وأرجعها لأحضان الحكومة الاتحادية في بغداد لتظل قلعتها تحت راية العلم العراقي، لكن الأكراد قاموا بتغيير بنيتها وتركيبتها السكانية بما يتوافق وأهدافهم بتكريدها، ما خلق مشكلة جديدة لهذه المدينة المأزومة في تاريخها على حد وصف رئيس الوزراء حيدر العبادي
مدينة تفخر بتنوعها وتعدديتها
تعدد التاريخ وتنوع الأقوام الذين عاشوا في كركوك جعلها أشبه بفسيفساء مجتمعية تتكون من تنوع إثني مؤلف من تعدد الأعراق والديانات فيها، حيث يقطنها العرب والكرد والتركمان والسريان، ويتعايش بين جنباتها المسلمون والمسيحيون واليهود وأقليات أخرى صقلها الزمن وأثرى حياتها التنوع، حتى كان لذلك التنوع في القوميات والديانات والأعراق في كركوك أبلغ الأثر في تشكيل مزاج سكان خامس مدينة عراقية في عدد السكان الذي يربو عن مليون نسمة تقريباً، وهذا التنوع أيضاً شكلّ سمة الثقافة المتعددة للمدينة وأمصارها، لغة وتطلعاً وتاريخاً وكان سلاحاً ذا حدين في أوقات الحرب والسلام معاً، ففي السلام، الذي تفرضه الدولة المركزية قوة بجيشها العرمرم، فان كركوك تمشي كنسمة باردة في صيف قائظ، لكن أيام الحروب والمنازعات، يتسلح الأهالي خشية على حياتهم وممتلكاتهم وهذا ما تكرر كثيراً بحسب مناخ الدولة ومزاجها في بغداد الذي يعم على كركوك قبل غيرها من مدن العراق ذات الغالبيات من المكونات، وطغيان الجنسيات فيها، نتيجة واقع هش سرعان ما تناثر وتهدم عند صدام الإثنيات فيها .
أهل كركوك وتنامي مشاريع تنميطها
أهل كركوك الحقيقيون يدركون مغزى أن تستمر حياتهم تحت شعلة النار الأزلية المضيئة دوماً وسط المدينة التي أحبوها وأنفقوا حياتهم فيها، حيث ثروات النفط التي لم تذهب يوماً إلى أهل كركوك بل تدخل في موازنة الدولة المركزية حيناً والإقليم الكردستاني أحياناً منذ عقدين من الزمن، لكن الإقليم الطامح بضمها، غيّر معادلة التوافق المكوّناتي لسكان كركوك، كما يتهمهم شريكاهما العرب والتركمان، الناقمون، الذين يظنون أن مدينتهم ذات طابع تركماني عراقي كونهم القومية الثالثة في البلاد.
واستاء سكان المدينة في السبعينيات والثمانينيات وهم يشهدون التغيير الديموغرافي السريع الذي يجري على مدينتهم حين عمد صدام حسين لإسكان 200 ألف عربي في كركوك ومنحهم أراض للزراعة والسكن ومكافاة تشجيعية تقدر بـ 35 ألف دولار، لنفقات المعيشة وسعى لتغيير معادلة هوية التنوع بعد إسكان القبائل العربية فيها بكثافة طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات بحوافز متنوعة لتغيير هويتها المتعددة المشارب إلى سيادة العرب فيها، وتحويلها لمدينة عراقية بغالبية ونكهة عربية، سرعان ما تغيرت هذه المعادلة بعد الغزو الأميركي للعراق 2003، وعاد الأكراد المهجّرون إليها وسادت السطوة الكردستانية عليها التي وجدت في كركوك ضالتها لتوفير ظروف الاستقلال بحكم وجود ثروات النفط الذي يصل إلى مليون برميل يومياً، بحسب تأكيدات عدد من النواب العراقيين من العرب .
عين الأكراد عليها كعيون نفطها
لم تغفُ عين الكرد عن كركوك أبداً، فحين مررتُ عليها لمقابلة زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني الراحل مام جلال (وهكذا يسميه الكرد توقيراً لزعامته) خلال عام 1989 في مقره في السليمانية الواقعة في منطقة الحظر الجوي الأميركي فوق خط العرض 36 حينها، رأيت عدداً غير قليل من اللاجئين الكرد وهم يقطنون جبالها قبالة كركوك المحاذية، كانت درجات الحرارة منخفضة كثيراً تحت الصفر وهم يفترشون شقوق الجبال مأوى لهم، سألت الراحل مام جلال الطالباني حين التقيته: لماذا لا تنزلوهم للسليمانية كي يشعروا بمأوى دافئ تحت رعايتكم؟ قال لي ولمرافقي: نحرص على بقائهم هنا ليروا مدينتهم كركوك من بعد "وهي مسقط رأسي أيضاً ليتدفأوا بالنار الأزلية التي يرون شعلتها في الليل؟
عام 2003 مفترق طريق كركوك العراقية
عدت لبغداد حزيناً وأنا استعيد كلام الزعيم الكردي، وكان النظام في بغداد يرزح تحت الحصار، متيقناً أن الأمور لن تستمر هكذا في مدينة يجري تعريبها كل يوم، حتى جاء ذلك اليوم الذي أحدث صِداماً عنيفاً بين مكونات الشعب بعد الغزو عام 2003، وانقلبت أحوال العراقيين، وأعيد دور التهجير، ليذوقه العرب هذه المرة وهي المرة الأولى في العراق، حينها نهبت المدينة وأخرجوا منها عنوة، وكان التركمان أكثر الناس خسارة وجدوا أنفسهم كما يقول المثل العراقي (رطبة بين سلايتين) بين شوكتي العرب من جهة والكرد من جهة ثانية، على الرغم من أنهم يستشعرون بالحماية التركية المعنوية، وأن تركيا تجد بسكان كركوك أشبه بجالية غير معلنة في العراق، وموضع ثقتها، لا سيما أن تركيا ما زالت تخصص لـ "ولاية الموصل" ليرة تركية واحدة من موازنة دفاعها كما يؤكد بعض السياسيين العراقيين، مفسرين ذلك بأنها العمق الجنوبي الشرقي لأمنهم القومي.
التعريب وآثاره بين زمنين
تُهم كثيرة يعزوها السياسيون الكرد لنتائج سياسة التعريب التي اتبعت إبان الحرب العراقية - الإيرانية إزاء الأكراد المتاخمين حدودياً مع أكراد إيران، الموزعين على ضفتي جبال زاغروس الطويلة والكثير منهم، لا سيما في السليمانية حيث تتوزع القبائل الكردية وتمتد نحو كركوك في الجنوب، في مقدم هذه التهم تغيير الأسماء الكردية للقصبات والقرى والمدارس والأحياء السكنية إلى اللغة العربية، وهم يجدون في إطلاق اسم التأميم على كركوك خير شاهد، كذلك تغيير اسم محلة (رحيماوا) إلى حي الأندلس وإعدادية كوردستان الى إعدادية عبد الملك بن مروان، يرون ذلك محاولة في تغيير الهوية الثقافية لكركوك التي يؤكدون أن 48.3 في المئة من سكانها أكراد وفق أحصاء عام 1957، كما أن سياسة التعريب لكركوك التي اعتمدها النظام السابق وتغيير الحدود الإدارية وتوزيع بعض أقضيتها بين نينوى وتكريت، وتقليل مساحتها التي كانت تزيد على 20 ألف كيلومتر مربع في خمسينيات القرن الماضي إلى 679.9 كيلومتر مربع، كما يقول الأكراد الذين يؤكدون ذلك من قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (795) الصادر عام 1975، أساس التدابير اللاحقة للتعريب حين اتهم الأكراد بأنهم (الجيب العميل) لإيران، وأبطلوا سندات الملكية لبعض الأكراد وفق المرسوم (58) في 1978، بتهمة التعاون مع إيران-الشاه.
حكومة بغداد: لم نهجر من لديه إحصاء 1957
غير أن الحكومة المركزية استندت في ذلك على حدّ زعمها، إلى أن الترحيل شمل 11 ألف عائلة كردية وافدة إلى مركز كركوك، وغالبيتهم من الأكراد الذين قطنوا المدينة بعد إحصاء عام 1957 وهاجروا من السليمانية وأربيل ودهوك بعملية منظمة، كما تقول السلطات وتؤكد أنها لم تقم بترحيل العوائل التي لديها سجل نفوس في كركوك ذلك العام.
القوات الأميركية سعت للتهدئة
لقد تغير كل شيء في كركوك لحظة سقوط النظام السابق، ودخلت المدن العراقية بتاريخ جديد، إذ لم يكن أحد ليصدّق ما يحدث، حين دخلت قوات البيشمركة الكردية إليها لتعيد الأوضاع لما كانت عليه قبل أكثر من 30 سنة، على الرغم من إجراء الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر انتخابات للمجلس البلدي في المحافظة من 300 مندوب من كل المكونات لاختيار 30 عضواً في المجلس، بنسب متساوية بين العرب والأكراد والتركمان، في إطار مساعي تخفيف حدة التوتر العرقي الذي ساد في كركوك.
سياسة "تكريد" كركوك
غير أن الحلم الكردي حلّق بعيداً لتأسيس دولة (كردستان الكبرى) واتبع مسعى لما قام به نظام صدام حسين باتباع سياسة مشابهه للتعريب بتكريد كركوك، مستغلين الفوضى التي شهدتها البلاد بعد سقوط النظام السابق، وتتهم أطراف عربية وتركمانية في كركوك باستقدام أكراد من أصول غير عراقية (سورية، إيرانية) وإسكانهم بوثائق مزورة، وتوزيع 100 ألف قطعة سكنية على أتباعهم وتكوين أحياء كردية جديدة تحيط بالأحياء التركمانية والعربية، واستمرت سياسة الضغوط على العرب القاطنين في كركوك من أجل إجبارهم على الرحيل من سكنهم، وهناك شكاوى كثيرة تقدم للحكومة المركزية بهذا الخصوص لحين قيام الدولة المركزية، أيام حكم العبادي، باتهام حكومة الإقليم باستغلالها انشغال الحكومة المركزية بمكافحة الإرهاب وتقديم التضحيات مقابل تمدد كردي غير مشروع لتغيير بنية كركوك على حد قول العبادي حينها.
فقد حاصر الجيش العراقي وقوى الإسناد كركوك وطوقها وأخرج البيشمركة وطرد محافظها الكردي، ودخل الجيش وفصائل مدنية إليها لمنع ضمّها إلى المحافظات الكردية الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك، التي تتمتع بكونها إقليماً.
مدينة متنازع عليها
بعد كتابة الدستور العراقي الحالي عام 2005، برزت أزمة ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور نتيجة مطالبة حكومة إقليم كردستان بضم محافظة كركوك إلى الإقليم، لكن الواقع لا يحسم هذه المطالبة كون المحافظة خليطاً من العرب والكرد والتركمان والسريان وسواهم، وهناك أقضية عربية بالكامل مثل الدبس والحويجة وقضاء كركوك داخل المدينة، وأدى دخول الجيش العراقي إلى كركوك وإعلان قيادة عمليات عسكرية، إلى تغيير معادلة التمادي في ضم كركوك، لا سيما بعد هروب المحافظ الكردي منها وإعلان السيطرة العسكرية التامة من قبل الدولة المركزية في بغداد.
وعلى الرغم من ذلك، تظل هذه الفقرة من الدستور حول كركوك وسواها من المناطق المتنازع عليها لغماً في محيط إقليمي لا يسمح بإعلان الدولة الكردية، التي لا تكتمل كمشروع من دون نفط كركوك الذي هو يؤول سيادياً وفق الدستور العراقي للحكومة المركزية وتحت سيطرتها المطلقة.