كشفت الحكومة النرويجيّة في عام 2007 عن التصميم النهائي لما سمته "قبو يوم القيامة" الذي جمعت فيه عيّنات من بذور النباتات من أنحاء العالم، ويقع هذا القبو في جزيرة نائية بالقطب الشمالي، تحسباً لكارثة طبيعية أو وباء أو حرب نووية تأتي على المحاصيل الزراعيّة وعلى البذور، وتم افتتاحه في عام 2008.
والقبو مصمّم ليكون قادراً على تحمّل كوارث كونية مثل حرب نووية أو جائحة طبيعية أهمها الاحتباس الحراري، وهو يتسع لتخزين ثلاثة ملايين عينة من البذور المختلفة، وأخذت الحكومة النرويجية على عاتقها دفع تكاليف المشروع، ولكن جمع العينات وصيانتها من مسؤولية "الصندوق العالمي لتنوّع المحاصيل"، وقد أسّسته الأمم المتحدة لـ "الحفاظ على تنوّع المحاصيل إلى الأبد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة ترميم "القبو"
وتم تخزين عيّنات "القبو" في درجات حرارة تزيد على 18 درجة مئوية تحت الصفر، أما المدة التي تحتفظ بها البذور المجمدة بقدرتها على النمو فيعتمد على نوعها، فبعض المحاصيل مثل البازلاء لا يصمد سوى ما بين 20 إلى 30 عاماً، وبعضها الآخر، مثل دوار الشمس ومحاصيل الحبوب يمكنه البقاء لعقود، وربما لقرون عدة، لكن، في نهاية المطاف، ستفقد كل البذور قدرتها على النمو، لذا سيتم أخذ بضع بذور من العينة المخزّنة لتزرع في بيئة مناسبة ليعاد تخزينها في القبو، والمنشأة يتم تشغيلها بأدنى تدخل بشري ممكن.
وقامت الحكومة النرويجية بإعادة ترميم القبو في عام 2018، وتم بناء نفق وصول جديد، ومبنى خدمات لإيواء وحدات للطاقة والتبريد الطارئة، فقد أدى الذوبان غير المتوقع لجليد القطب الشمالي إلى تدفّق بعض المياه إلى مدخل النفق المؤدي إلى القبو في أواخر عام 2016.
انتشار بنوك البذور حول العالم
في واحدة من التجارب العملية التي أنشئ من أجلها "قبو يوم القيامة" تم في عام 2015 سحب بذور لأول مرة منه، وذلك بعد أن ألحقت الحرب في سوريا ضرراً ببنك للبذور قرب حلب، وتمّت زراعة البذور وإعادة إيداعها في القبو، وكانت هذه التجربة الأولى في إعادة الحفاظ على أنواع معينة من الحبوب تضرّرت بسبب تدخل بشري.
أما المبادرة العالمية الرسمية الأولى فقد انطلقت في عام 1983، حين أنشئت "هيئة الموارد الوراثية للأغذية والزراعة" كمنتدى يتناول تحديداً المسائل المتعلقة بالموارد الوراثية النباتية، وساعدت هذه الهيئة على تنسيق سلسلة من المبادرات الدولية الشديدة الأهمية، ونبهت المجتمع الدولي إلى تسارع الاستنزاف الوراثي، كما قادت جهود الصون المنسّقة على مستوى السياسات العالمية، وقد وضعت الهيئة في وقت مبكر مواصفات بنك الجينات ومدوَّنة السلوك الدولية بشأن جمع المادة الوراثية النباتية ونقلها.
وبدأ الاهتمام العالمي الشامل بالحفاظ على التنوّع البيولوجي وتوثيقه دولياً خلال "قمة الأرض" التي عقدت عام 1992 في ريو دي جانيرو، وكانت أكبر اجتماع لقادة العالم يعنى بالبيئة والتنمية، وتمّ فيها التوقيع على مجموعة من الاتفاقات التاريخية.
مهمة وطنية
واليوم بات عدد البنوك الوراثية المنتشرة حول العالم حوالى 1750 بنكاً، وأصبحت البنوك الوراثية مهمة وطنية لمعظم البلدان، وحقاً سيادياً، والأهداف الرئيسة لهذه البنوك هي: جمع الأصول الوراثية للأنواع البرية والسلالات الاقتصادية، مع الاهتمام بـ "الأقارب" البرية لنباتات المحاصيل والأعلاف، ووضع الخطط البحثية الخاصة بحفظ الأصول الوراثية، وتوفير المواد الوراثية والمعلومات اللازمة لبرامج التربية المختلفة، وتبادل المعلومات الخاصة بالمصادر الوراثية مع بنوك الجينات المحلية والأجنبية.
أهمية بنوك البذور
ازدادت الموارد الوراثية النباتية في العالم عما كانت عليه الحال عندما لاحظ الإنسان البدائي أن بإمكانه أن يحفظ البذور من فصل إلى آخر ليزرعها ثانية، فقد تعلَّم المزارعون كيف يحفظون بذور المحاصيل، ونتيجة لذلك، يزيد عدد أنواع النباتات التي يزرعها الإنسان أو يجمعها غذاء له، على السبعة آلاف نوع.
ونتيجة هذه العملية التطورية بات 30 محصولاً غذائياً يوفِّر للإنسان اليوم 95 في المئة من حاجاته، وأن أربعة منها فقط، هي الأرز والقمح والذرة والبطاطس، توفر أكثر من 60 في المئة من هذه الحاجات، ونظراً لأهمية هذا العدد الصغير نسبياً من المحاصيل للأمن الغذائي العالمي، أصبح صون التنوّع ضمن كل من المحاصيل الرئيسة ذا أهمية محورية عملية.
ولكن التنوّع الحيوي النباتي مهدد بما يسمى "الاستنزاف الوراثي"، وهو مصطلح وضعه العلماء للتعبير عن فقدان الموروثات الفردية وكذلك مجموعات المورثات، ويكمن السبب الرئيس في الاستنزاف الوراثي، في الاستعاضة عن الأصناف القديمة في حقول المزارعين بأصناف جديدة، لأن المورثات الموجودة في الأصناف القديمة ليست موجودة جميعها في الأصناف الحديثة، إضافة إلى ذلك، كثيراً ما تحدّ الأصناف التجارية عندما تدخل في النظم الزراعية التقليدية من العدد الكبير للأصناف التي كانت شائعة الاستخدام، ومن الأسباب الأخرى للاستنزاف الوراثي ظهور آفات أو أعشاب طفيلية أو أمراض جديدة، وتدهور البيئة، والتصحّر، وإزالة الغابات.
لماذا الحفاظ على التنوّع الحيوي؟
التنوّع الحيوي مصطلح يُطلق على تنوّع الحياة على الأرض والأنماط الطبيعية التي تشكلها، وهذا التنوّع هو ثمرة ملايين السنين من التطور، ويشكّل شبكة من الحياة التي نمثّل نحن البشر جزءاً منها، ونعتمد عليها، ويشمل التنوّع الحيوي مجمل أنواع الكائنات الحية على الأرض، ويتم توصيف التنوّع الحيوي عادة على ثلاثة مستويات: الأنواع، والجينات، والنظم البيئية.
والأنواع هي النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة (الميكروبات)، وحتى اليوم تمّ التعرّف إلى حوالى 1.75 مليون نوع فقط من أصل ما يتراوح بين ثلاثة و100 مليون نوع بحسب تقديرات الخبراء.
ويتضمن التنوّع الحيوي، "التنوّع البيولوجي" أيضاً، أي الاختلافات الجينية داخل كل نوع، فالكروموزومات، والجينات، والحمض النووي، وهي "البُنى" الأولى والأساسية للحياة، وتحدد تفرّد كل كائن حي عن الآخر.
"الأنظمة البيئية"
أما تنوّع "الأنظمة البيئية" مثل تلك الموجودة في الصحاري والغابات والأراضي الرطبة والجبال والبحيرات والأنهار والمسطحات الزراعية، وغيرها من النظم البيئية على الأرض، وهي، حيث تشكّل المخلوقات الحية، بما فيها البشر، بيئاتها الاجتماعية الخاصة حين تتفاعل في ما بينها كما تتفاعل مع ما يحيط بها من الهواء والماء والتربة.
ويُعد فقدان التنوّع الحيوي للأنواع النباتية والحيوانية أحد المخاوف البيئية الرئيسة في العالم اليوم، لتعلّقه بعدد كبير من السلع والخدمات، فقد طوّر البشر على مدار آلاف السنين مجموعة كبيرة من النباتات والحيوانات الداجنة المهمة في التغذية، لكن هذا الكنز المدجّن بدأ بالتضاؤل، لأن الزراعة التجارية الحديثة تهتم بصورة متنامية بمجموعة قليلة نسبياً من المحاصيل، ومعظمها يتركزّ على القمح والأرز والذرة والبطاطا، أي المحاصيل التي تدخل كمواد أساسية في معظم الصناعات الغذائية العالمية حالياً.