تشير أحداث الأسبوعين الماضيين من التظاهرات المتواصلة في أكثر من 200 مدينة أميركية، إلى شيء عميق قد حدث في الولايات المتحدة، على الرغم من أنه لم تظهر بوادر في الأفق حتى الآن عن موعد انتهاء هذه الاحتجاجات المستمرة بلا انقطاع، لكن المؤكد أن الأمر سوف يستغرق عدة سنوات قبل التيقن من أن أميركا أصبحت أكثر اقتراباً من تحقيق الفكرة المثالية للمساواة والتي خرج المحتجون من أجل المطالبة بتحقيقها.
على مدى 14 يوماً تراكمت صور ومشاهد متباينة من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، ومن ولايات الشمال الباردة إلى ولايات الجنوب الدافئة. متظاهرون سلميون يطالبون بتحقيق العدالة بين الأعراق المختلفة. كتائب من شرطة مكافحة الشغب تستعد للاشتباك مع المتظاهرين. مدن تشتعل بعنف متناثر، ومشاهد مؤلمة للسلب والنهب وتخريب الممتلكات. سياج معدني يلتف حول البيت الأبيض، ورئيس يهدد باستخدام الجيش لقمع المحتجين الذين وصفهم بالغوغاء ثم يلوح بالإنجيل أمام كنيسة القديس جون قرب البيت الأبيض في مشهد نادر الحدوث في الولايات المتحدة.
خطيئة تاريخية
كشفت هذه المشاهد عما اعتبره البعض نضالاً يتسع من أجل توحيد المجتمع الأميركي ضد انقسام ازداد عمقاً في أميركا هذا العام، غير أن تبلور الأحداث مع مرور الأيام طرح تساؤلات عن طبيعة الدولة الأميركية حالياً، ونوع البلد الذي يريده الأميركيون.
فقد أصبح استخدام الركبة للضغط على عنق مشتبه به أو مُتهم، مثلما شاهده العالم حين كان جورج فلويد يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت ركبة شرطي، رمزاً حقيقياً أوجز خطيئة تاريخية امتدت على مدى 400 عام من العنف والعنصرية التي تستهدف الأميركيين السود.
شيء ما يتغير
وسواء كانت هذه الأحداث تدفع النخبة السياسية للتحرك نحو تحقيق المساواة والتي قد تستغرق سنوات، إلا أن الأيام الماضية أشارت إلى أن شيئاً ما يتغير، فقد وصلت الاحتجاجات إلى كل ركن من أركان الولايات المتحدة ولمست كل شرائح المجتمع تقريباً، فما بدأ على أنه رد فعل مباشر على مقتل أميركي أسود غير مسلح على يد الشرطة، أصبح ضرورة ملحّة من أجل التغيير في عام من الأزمات المتتالية شهد محاولة عزل الرئيس، ثم وباء كورونا وما تبعها من بطالة غير مسبوقة وانتهاء باضطرابات عرقية.
امتدت الاحتجاجات لتشمل 700 مقاطعة ومدينة كبيرة وصغيرة، ونشرت قوات الحرس الوطني 30 ألفاً من عناصرها في 12 ولاية على الأقل، واعتُقل أكثر من عشرة آلاف شخص، وانفتحت عيون العالم بقلق على أميركا وهي تشتعل بالغضب، بل تضامنت تظاهرات أخرى في 25 بلداً حول العالم مع مطالب المحتجين الأميركيين.
ولعل تصريحات جيفري غيريرو، وهو شاب أميركي أسود من ولاية ميريلاند، خلال مشاركته في تظاهرات على طول شارع بنسلفانيا في قلب العاصمة واشنطن، تعكس الأمور التي تغيرت في غضون أيام قليلة وتلك التي لم تتغير بعد، حيث قال: "نعيش في عالم لا تشكل فيه أصواتنا أي أهمية، وما نراه اليوم هو نتيجة لأجيال تشعر بأننا من دون صوت"، لكنه أوضح أنه يدرك أن التغيير لن يحدث بسهولة، ومع ذلك فإن ما يختلف في عام 2020 هو مشاركة الكثير من الشباب في هذه الاحتجاجات التي اعتبرها بمثابة انتفاضة.
حراك مجتمعي
حَركَ مقتل جورج فلويد المجتمع بطريقة لم تحدث من قبل، فقد جاءت الإدانات من جميع الاتجاهات، مع تأكيدات على الالتزام بمعالجة كيفية تعامل الشرطة مع الأقليات، بل والمشكلات الأكثر تعقيداً المتمثلة في العنصرية وعدم المساواة.
وشملت الأصوات الداعية إلى التغيير المسؤولين المنتخبين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وقادة المؤسسات الدينية والأكاديمية والخيرية، والمسؤولين التنفيذيين للشركات نيابة عن منظماتهم، والمسؤولين عن إنفاذ القانون.
واتسعت قضايا الجدل الدائر داخل بعض المؤسسات لتنتقل من مسألة العنصرية والمساواة، إلى أسلوب وشكل الخطابات السياسية المتعلقة بالقضية، حيث واجه مارك زوكربيرغ رئيس شركة فيسبوك، ثورة داخلية بسبب قراره السماح بنشر تعليقات للرئيس الأميركي دونالد ترمب، يقول النقاد إنها تنتهك سياسات الشركة، كما واجهت صحيفة "نيويورك تايمز" انتقادات من موظفيها ومحرريها بعد نشر مقال رأي للسناتور الجمهوري توم كوتون يدعو فيها ترمب إلى تحريك القوات ضد المتظاهرين.
نقطة تحول
ينظر الكثير من المراقبين في واشنطن إلى الأيام القليلة الماضية على أنها بداية نقطة تحول مهمة في التوجه الوطني الداخلي بشأن قضية العرق في أميركا، لكن في بلد منقسم بعمق مثل الولايات المتحدة، حيث تشكلت الملامح الرئيسة لقضية العنصرية وعدم المساواة قبل انتخاب ترمب بسنوات طويلة، فإن التغييرات العميقة التي ينتظرها الناس، تتحقق عادة ببطء.
ويُعد بروز وخفوت الأحداث المرتبطة بقضية العرق في أميركا، على مدى فترات زمنية طويلة، تذكيراً بالصراع الطويل من أجل التغيير، وبأن الدفع لإحراز تقدم، تعقبه محاولات من المعارضين لتعطيل هذه الجهود، وبخاصة أن العنف الذي يصاحب أحياناً الاحتجاجات السلمية يمكن أن يحجب الدعوات المطالبة بالعدالة.
على طريق نيكسون
في عام 1968، وبعد عام من الاغتيالات والاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام واشتباكات دموية خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في شيكاغو، فاز ريتشارد نيكسون بالرئاسة باعتباره مرشح "القانون والنظام" و"بطل الأغلبية الصامتة"، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه ترمب الأسبوع الماضي، ما يدل على أن الرئيس الأميركي يراهن على أن طريقه لإعادة انتخابه يسير في الاتجاه نفسه، في حين يراهن المرشح الديمقراطي جو بايدن على أن أميركا تحتاج من يساعد على وقف النزيف المستمر.
ستحدد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل من يقود البلاد خلال السنوات الأربع المقبلة. وبصرف النظر عما إذا كانت الجهود الحالية سوف تترجم إلى شيء ملموس للتعاطي مع قضية العرق وعنف الشرطة، فإن من سيتولى القيادة في البيت الأبيض، هو من يستطيع أن يدفع الجهود في طريق الحل، تماماً مثلما حدث خلال الستينيات، عندما دفع الرئيس ليندون جونسون من أجل إقرار قانون الحقوق المدنية في عام 1964، وقانون حقوق التصويت في عام 1965.
من الأسفل إلى الأعلى
لكن التقدم الذي شهدته فترة الستينيات، لم يكن ليتحقق لولا نضال حركات ومنظمات الحقوق المدنية على مدى سنوات سبقت مناقشات الكونغرس وصولاً إلى التصويت لإقرار القوانين.
ومع توحد الآراء والأفكار في الولايات المتحدة بشكل لم يحدث من قبل، على الأقل في بعض الجوانب المتصلة بكيفية معالجة المشاكل العرقية القائمة، يرى مراقبون أن التغيير الحقيقي يأتي فقط من الأسفل إلى الأعلى، وأن التعبئة العامة التي شهدتها الولايات المتحدة على الصعيد الوطني رداً على مقتل فلويد، وغيره من الرجال والنساء من أصول أفريقية، هي مجرد رمز لبداية هذا النوع من الحراك، ولكن من يتظاهرون في الشوارع ومن يشاركونهم الطموحات نفسها، ربما لم يدركوا بعد المسار الواقعي للتغيير في المجتمع والذي يستغرق كثيراً من الجهد والوقت ويتطلب المزيد من المثابرة.
أهداف متعددة
لكن المشكلة الرئيسة تتمثل في أن التظاهرات التي توغلت في مدن وبلدات وقرى أميركا، ليس لها قائد أو زعيم وطني، ولكن هناك مئات الآلاف من الناس الذين يتدفقون إلى الشوارع ويسدون الجسور ويملأون الحدائق من دون أن يكون لهم هدف واحد، إذ تتعدد الأهداف المحلية والوطنية، ما بين أهداف مادية صغيرة مثل إزالة تماثيل جنرالات الكونفيدرالية الذين حاربوا الولايات الشمالية من أجل الإبقاء على استعباد السود، إلى وضع تصورات جديدة شاملة عن كيفية تنفيذ الشرطة للقانون، وإلغاء الحماية القانونية الخاصة بضباط الشرطة وتنفيذ القانون القائمة حالياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تأتي الدعوات المطالبة إلى تجريد الشرطة من بعض المزايا على رأس المواضيع المهيمنة على مطالب المحتجين، حيث تقول فانيتا غوبتا، المديرة التنفيذية لمؤتمر الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، إن الفكرة الجوهرية تتمثل في الشكوى من أن زيادة تكاليف الأمن الخاصة بالشرطة امتصت الكثير من موارد الدولة والموارد المحلية على حساب تحسين حياة الناس داخل مجتمعات السود والملونين في الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الفيدرالي، يحث المحتجون وجماعات الحقوق المدنية، الكونغرس على إصدار قانون يحظر خنق المتهمين أو المشتبه بهم خلال السيطرة عليهم من قبل ضباط الشرطة، كما يريدون إلغاء البرامج الفيدرالية التي تقدم معدات عسكرية لقوات تنفيذ القانون في البلديات المحلية، وإنشاء قاعدة بيانات عامة وطنية لضباط الشرطة المسيئين، وإنهاء مبدأ حصانة رجال الشرطة الذي يحول من دون تحميلهم المسؤولية في حالات معينة يخالفون فيها القانون.
ويقول ديفيد ماير، أستاذ علم الاجتماع والسياسة العامة في جامعة كاليفورنيا، إن "هذه المجموعة الواسعة من المطالب على المستويين المحلي والوطني تتوافق مع طريقة عمل جميع حركات الاحتجاج في التاريخ، ولكن النظام في الولايات المتحدة يعمل على إحباط المحتجين وإبقائهم في اللعبة في الوقت نفسه، حينما تضعف لحظات الزخم وتبقى مجموعات أقل تعمل على تحقيق المطالب".
عمل متواصل
ويتطلب إنجاز هذه المطالب الإصلاحية عملاً متواصلاً من آلاف الفاعلين السياسيين على المستوى المحلي، ومناقشات ومناورات شرسة من المشرعين داخل الكونغرس الأميركي في كابيتول هيل، كما يتطلب الأمر أيضاً، رئيساً مستعداً للتعاطي الإيجابي والتعاون مع المشرعين على المستوى الوطني.
ومع تصاعد الاحتجاجات المستمرة خارج أبواب الكونغرس، بدأ المشرعون في كابيتول هيل في صياغة ما يمكن أن يصبح أحد أكثر القوانين طموحاً منذ سنوات للإشراف على الطريقة التي تعمل بها قوات الشرطة وتنفيذ القانون.
وتتضمن جهود مجلسي الشيوخ والنواب تغييرات على القوانين المتعلقة بمساءلة الشرطة، مثل مراجعة منح الحصانة للقوات، وإنشاء قاعدة بيانات لحوادث إساءة استخدام الشرطة للقوة، وحظر استخدام خنق المتهمين والمشتبه بهم حال مقاومتهم المستمرة لأوامر الاعتقال.
احتجاجات مستمرة
وعلى الرغم من أن بعض مطالب المتظاهرين بدأت تتحقق بالفعل على المستوى المحلي، مثل إزالة تماثيل بعض جنرالات الحرب الأهلية من ولايات مثل فيرجينيا وكارولينا الشمالية وتعهد مجلس مدينة مينيابوليس التي شهدت مقتل فلويد بحل إدارة الشرطة وإعادة تشكيلها من جديد، فإن المتظاهرين يدركون صعوبة تحقيق جميع مطالبهم.
ومع ذلك فإن المحتجين يستشعرون أن حجم الحركة هائل، وتحدث منظمون للتظاهرات لصحيفة "أتلانتك" بأن الاحتجاجات يمكن أن تستمر لأيام أو أسابيع، وربما حتى خلال شهر نوفمبر المقبل الذي سيشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية بصرف النظر عما إذا كان ترمب قد خفف من نبرته النقدية للمحتجين، أو قدم قدراً من التنازلات لتهدئة المتظاهرين.
ترمب صامد
ولا يتوقع مراقبون أن يقدم ترمب تنازلات كثيرة حتى لا يبدو في موقف متناقض مع مواقفه السابقة حيال المحتجين ويواصل تكتيكاته السياسية بجذب الناخبين البيض الراغبين في رؤية زعيم قادر على تنفيذ النظام والقانون بما يضمن له الفوز بدورة رئاسية ثانية.
وما يعزز هذا الموقف، ما كشفت عنه استطلاعات أخيرة للرأي من أن غالبية الأميركيين ترغب في رؤية زعيم قوي للولايات المتحدة قادر على تنفيذ النظام والقانون.