استقال محرر قسم الرأي في صحيفة الـ"نيويورك تايمز" الأميركية العريقة بعد اتّساع الخلاف حول مقال نشرته الصحيفة لسيناتور جمهوري يؤيد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإنزال الجيش لشوارع المدن لمواجهة الاحتجاجات على مقتل أفريقي أميركي على يد الشرطة.
وبعد أسبوع من الجدل، داخل الصحيفة وخارجها، حول المقالة التي كتبها السيناتور توم كوتون بعنوان "لنرسل القوات"، أعلن ناشر الصحيفة، إيه جي سلزبرغر، استقالة رئيس تحرير قسم الرأي، جيمس بنيت، ونقل نائبه جيم داو، من قسم الرأي إلى قسم آخر في الصحيفة. وستتولى كيتي كينغسبري، النائب الآخر لمحرر الرأي، رئاسة القسم بالإنابة حتى نهاية العام.
ولم يعلن الناشر عن تغييرات أخرى في الصحيفة العريقة، لكن إشارته في مذكرة للعاملين إلى "فترة انتقالية" قد تعني مزيداً من التغييرات في قيادة الـ"نيويورك تايمز".
ومن غير الواضح إن كان ذلك سيطال الرئيس التنفيذي للمؤسسة، الإعلامي البريطاني مارك تومسون، الذي يقودها منذ عام 2012.
حدود الحرية
وأثارت مقالة السنياتور كوتون جدلاً واسعاً حول حرية الرأي وحدودها وهل تتوقف الحرية عند معايير اجتماعية مثل تأجيج الكراهية أو العنصرية، أم أنها تعني ضرورة إتاحة الفرصة لكل وجهات النظر مهما كانت مثيرة وصادمة.
وكان محرر الرأي في الصحيفة، جيمس بنيت، قد دافع عن المقالة في البداية بعدما احتجّ أكثر من 800 من صحفيي الـ"نيويورك تايمز" على نشرها الأربعاء الماضي، ولم يذهب كثير منهم للعمل الخميس احتجاجاً باعتبارها "مقالة تؤجج العنصرية وتدعو لقمع التعبير عن الرأي الذي يكفله الدستور الأميركي باستخدام القوة المسلحة".
لكن مع اتّساع الاعتراض على المقالة ووقف عدد من المشتركين في الصحيفة لاشتراكاتهم فيها احتجاجاً، تغيّر الموقف. ومن المعروف أن الصحف الأميركية تعمل على أساس تجاري وتعتمد على الاشتراكات والإعلانات، وأي تأثير كالذي حدث في الأيام الأخيرة بتوقف اشتراكات بالمئات يعني ضغطاً على مواردها يتضاعف ضرره في ظل الظروف الحالية التي تعاني فيها وسائل الصحافة والإعلام عموماً بسبب الآثار السلبية لوباء فيروس كورونا (كوفيد-19) على صناعة الإعلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان الجدل أكثر سخونة داخل الصحيفة ذاتها، حيث اعتبر عدد من أبرز صحفييها نشر مقالة تؤيد دعوة الرئيس ترمب لاستخدام الجيش في مواجهة الاحتجاجات "تحريضاً على القمع بالقوة وترهيباً لمن يتظاهرون ضد العنصرية" بعد مقتل جورج فلويد على يد شرطي أبيض وزملائه في منيابوليس بولاية مينسوتا.
وكتبت الصحفية في الـ"نيويورك تايمز" نيكول هانا- جونز، الفائزة بجائزة بوليتزر، على صفحتها في (تويتر) "كامرأة سوداء، وكصحفيّة، أشعر بالخجل والعار أننا نشرنا (هذه المقالة)". واتّسع الجدل والنقاش في الصحف وعلى شاشات شبكات التلفزيون الرئيسة، وأغلبها انتقد نشر المقالة.
لكن هناك أيضاً مَن دافع عن نشرها وضرورة سماع كل وجهات النظر، وعلى شبكة "فوكس نيوز" انتقد ضيوف قرار الصحيفة الأخير متهمين الـ"نيويورك تايمز" بأنها "مليئة باليساريين الذين يخضعون بسرعة لصوت القطيع"، في إشارة إلى أن تراجع الصحيفة هو "ممالأة" للمتظاهرين والمحتجين.
وكانت "التايمز" نشرت في صفحة الرأي، قبل إعلان استقالة محرر الرأي ونائبه، تفسيراً مطولاً اعتبر أن العنوان (الذي لم يضعه السيناتور) بدا تحريضياً وأن المقالة احتوت على اتهامات بلا أساس مثل اعتبار جماعة مناهضة الفاشية جماعة إرهابية.
وفي اجتماع الناشر بالصحافيين ليل الأحد- الاثنين اعترف المحرر بأنه لم يقرأ المقالة قبل نشرها، ساحباً تماماً دفاعه السابق عن نشرها. نائب المحرر جيم داو أعلن أنه المسؤول عن تحرير المقالة ونشرها. بينما قال الناشر سلزبرغر في مذكرة لكل العاملين "في الأسبوع الماضي رأينا انهيارات لعملية التحرير (في قسم الرأي)، وهي ليست الأولى التي مررنا بها في الأعوام الأخيرة... ونحتاج لفريق جديد يقود قسم الرأي في وقت سيشهد تغييرات كبيرة".
انقسامات الإعلام
ومنذ توليّ جيمس بنيت رئاسة تحرير قسم الرأي، تعرضت الـ"نيويورك تايمز" للمشاكل أكثر من مرة. ففي سبتمبر (أيلول) الماضي عانت من الحرج الشديد بعد نشر مقالة عن انتهاكات جنسية للقاضي في المحكمة العليا، بريت كافانو، (الذي حارب ترمب ليعيّنه في المحكمة العليا رغم اعتراضات الكونغرس) وانهالت الانتقادات على الصحيفة بسبب تصرفات الكاتب بريت ستيفنز، الذي ينشر مقال رأي دائم فيها. وفي أبريل (نيسان) هذا العام اضطرت الصحيفة إلى الاعتذار بعد نشر كاريكاتير اعتبر معادياً للسامية في صفحات الرأي أيضاً.
ويبدو أن احتجاجات مكافحة العنصرية في أميركا تطال المؤسسات كافة، بما فيها الإعلام، ليس فقط عبر الجدل الدائر فيه، وإنما أيضاً بسبب عملية "فرز" للمواقف على أسس أبعد من الاختلافات السياسية بين جمهوريين وديمقراطيين أو يسار ويمين.
فيوم السبت استقال أكبر محرري صحيفة "فلادلفيا انكويرر"، ستان ويسكنوفسكي، بعدما نشر عنواناً في الصحيفة يساوي بين تضرّر الممتلكات ومقتل الأفارقة الأميركيين. وأدى ذلك إلى ثورة عارمة من العاملين في الصحيفة ما دفعه للاستقالة.
واضطر ويسكنوفسكي إلى الاعتذار بعدما عنون المقال كالتالي "المباني مهمة أيضاً"، في تهكم على شعار مظاهرات مناهضة العنصرية "حياة السود مهمة".
ويرى كثيرون أن استمرار الاحتجاجات والمظاهرات التي فجّرها مقتل جورج فلويد يمكن أن يؤدي إلى اتّساع الجدل و"الفرز" في الإعلام، كما هو حادث في بقية المجتمع الأميركي، بشأن الموقف من العنصرية وممارسات المؤسسات تجاه الجماهير وحدود حرية الرأي التي يكفلها الدستور.