ملخص
تخطئ "الجماعة" في تفسير أن القصف الأميركي والبريطاني ثم الإسرائيلي داخل اليمن دليل على أنها أضحت مشاركة جادة في الحرب، وتباهت بأنها تتعرض لهجمات عالمية مما أدى إلى تضخم في مخيلة قياداتها العسكرية والإعلامية بأنها صارت تمثل رقماً عسكرياً يقيم له العالم اعتباراً.
بطبيعة الحال فإن أحداً في اليمن لا يمانع أو يعترض على أن يكون اليمن حاضراً في أية معركة عربية شاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن الأمر ليس بالخفة التي اندفعت فيها "الجماعة" إلى إسناد غزة التي تبعد عنها جغرافياً أكثر من 2500 كيلومتر، وبالنظر إلى رداءة التقنيات التي تمتلكها فإن كل ما أطلقته في اتجاه المدن المحتلة لم يحقق أية نتيجة ملموسة تسهم في التخفيف من معاناة الفلسطيني الذي تطحنه آلة الموت الإسرائيلية على مدار الساعة.
اتخذ الحوثيون أسلوباً مبتكراً وإن كان بدائياً يشابه ما يفعله القراصنة وقطاع الطرق، بمهاجمة السفن التجارية العابرة بمبرر تبعيتها لشركات إسرائيلية، وضد بوارج غربية تمتلكها دول تدعم إسرائيل، ولا يزالون يحتجزون طاقم سفينة تجارية اختطفوها العام الماضي، ومع ازدياد أعداد الصواريخ والمسيرات البدائية التي قذفتها "الجماعة" باتجاه الأراضي المحتلة، تصاعدت شعبيتها عند كثيرين في العالم العربي.
الانطباع الخاطئ أعطى "الجماعة" وهماً أنها أضحت لاعباً مهماً ومؤثراً يؤخذ في الحسبان، فلم تضع في اعتباراتها ردود الفعل على ما تقوم به، وكانت تظن بسذاجة سياسية مفرطة في التفاؤل بأنها قادرة وسيسمح لها بتغيير موازين القوة في المنطقة، لكن حسابات البيدر تختلف عن حسابات البندر، والحقيقة أنها لا تتفهم الحسابات الجيوسياسية ولا تقيم لها وزناً.
تخطئ "الجماعة" بتفسير أن القصف الأميركي والبريطاني ثم الإسرائيلي داخل اليمن دليل على أنها أضحت مشاركة جادة في الحرب، وتباهت بأنها تتعرض لهجمات عالمية مما أدى إلى تضخم في مخيلة قياداتها العسكرية والإعلامية بأنها صارت تمثل رقماً عسكرياً يقيم له العالم اعتباراً، وتسبب هذا في اختلال الرؤية والتقدير وصار الأمر متعلقاً بكبرياء قائدها عبدالملك الحوثي، فجرى خلط بين تقديرات الحروب الداخلية وتلك التي تسبب ازعاجاً للنظام الدولي ومعاييره التي لا يمكن تحت أي ظرف أن يغيرها صاروخ مصنوع يدوياً، يمكن استخدامه في الحروب الأهلية.
لا تميز "الجماعة" بين تصرفاتها القمعية الداخلية ضد المواطنين والتي بها فرضت سيطرتها على رقعة جغرافية كبيرة فيها كتلة بشرية ضخمة، وبين تحدي دول كبرى عندها من الأسلحة ما يكفي لإحداث خراب يدفع المواطنون أثمانه، إضافة إلى الخسائر الهائلة التي تسحق كل مقومات البلاد.
منذ البداية، أقصد منذ الـ 21 من سبتمبر (أيلول) 2014، كان من الواضح أن "الجماعة" لم تلقِ بالاً للمصلحة الوطنية الجامعة، وبسبب ذلك دخلت البلاد في حرب طاحنة مثلت من منظورها انتصاراً لمجرد أن سلطتها لم تتهاو، ومرد ذلك أنها تدير الشأن الوطني بذهنية ضيقة ومنطلقات مذهبية صرفة، والعجيب أنها لا تقوم بأية مراجعات لمنهاج حكمها في مناطق سيطرتها ولا في نظرتها إلى اليمن الكبير، وهي غارقة في سراب قدرتها على الاستمرار في السيطرة بقمع واضطهاد الآخر المختلف والمخالف، ومن المدهش أنها تتغافل عن مشاهد الانكسار المذهل والسريع لشركائها في معسكر "وحدة الساحات وإسناد غزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان "حزب الله" في لبنان يمثل الشريك الأهم والأكثر تسليحاً في معسكر "الساحات وإسناد غزة" الذي ترعاه طهران، ولهذا استهلت إسرائيل في الـ 17 من سبتمبر الماضي حربها ضده، وتمكنت من إحداث أهم توغل أمني "حرب أجهزة النداء - PAGERS"، فعطلت منظومته الأمنية قبل أن تنتقل إلى قصف مواقع قياداته وملاحقتها في الضاحية الجنوبية، واغتالت كل قيادات الصف الأول فيه وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصرالله الذي كان يمثل رمزية تاريخية كبرى في "محور المقاومة والممانعة".
ومع تدمير معظم مقدرات "الحزب" العسكرية وتحييد منظومته الأمنية، افترض زعيم "جماعة أنصار الله" الحوثية أنه الوريث المؤهل والوحيد لقيادة "المحور"، وأن عليه واجباً دينياً لمواصلة التحدي، ومن الواضح حتى هذه اللحظة أنه لم يستوعب حجم المتغيرات الهائلة التي حدثت، ولا يعترف بأنه لا يحظى إلا بتأييد داخلي محدود جداً، وأن ما يفعله لا يتناسب مع إمكانات البلاد وفداحة ما تتعرض له وما ينتظرها، ثم جاءت الضربة المميتة التالية في دمشق حين انهار نظام أسرة الأسد سريعاً، وعلى رغم ما هو معروف عن التدخلات الخارجية لكن المؤكد أن رغبة شعبية جارفة سهلت الأمر، وكانت ترغب في رحيل رأس النظام وكل أسرته وأجهزته العسكرية والأمنية، ويكفي القول إنه فر خلسة مع زوجته وأطفاله من دون أن يرتب أوضاع البلاد ولا بقية أسرته ورفاقه، فتناثر نظام بشار الأسد وتهاوت فكرة "الزعيم إلى الأبد" بسهولة مذهلة، وانطوت صفحته لأنه انفصم عن الناس وعاش على سطح قمة جبل قاسيون المطل على دمشق في عزلة منعته من التعرف إلى حجم الدمار المؤسسي والمجتمعي الذي أحدثته منظومته الفاسدة.
وهنا يتحتم على قائد "الجماعة" في اليمن قراءة المشهد واستدراك الأمر بتقديم المصلحة الوطنية على المذهبية وإعلان الالتزام بالدستور القائم، وإطلاق جميع المعتقلين السياسيين فوراً وإطلاق الحريات العامة والخاصة، وإعادة الممتلكات الخاصة والعامة التي استولى عليها أنصاره من دون وجه حق، وأن يقتنع بأنه لم يكن وليس خياراً شعبياً مقبولاً، وأنه غير مخول من غالبية الشعب اليمني لحكمه والتحكم في مصيره.
وما يضاعف الأخطار هو التغافل عن أن قواعد اللعبة قد انقلبت، وأن المواقف العدمية المتهورة تدفع البلاد نحو مصير متلطخ بمزيد من الدمار والدماء والتفكك والأحقاد والكراهية، ويجب على قائد "الجماعة" التوقف عن استنفاد الزمن والعبث به في تلاوة المواعظ والخطب التي لا تعني شيئاً للناس، وعليه التوقف عن الحماقات التي لن تغير شيئاً على الأرض، وأن يفطن إلى أن العالم لن يتغاضى عن تهديد الملاحة الدولية تحت أي مبرر، والأهم أن يستوعب أن اليمنيين قد سئموا من حماقات جماعته.