1-
لا أريد أن أتفلسف أو أتأمل، لكن فقط أن أسجل ملاحظات على هامش ما يحدث، وما تابعت خلال العقد الثاني من القرن الأول من الألفية الثالثة، هذا العقد العربي بجدارة منذ يناير (كانون الثاني) 2011م وحتى الآن، ما اقترن أيضا بمفردة "عاجل"، وما جعل من (السوشيال ميديا) مدونة العصر.
أول ملاحظة: أن أسطورة "اليهودي التائه" باتت في النتيجة واقع "العربي التائه"، الذي لا يعرف خلال عقد من الزمان أين وما يكون وكيف ولمَ ما يحدث، وفي نفس الوقت كأنه لا يريد جوابا، وليس حائرا في هذا، بقدر ما هو يعيشه ويعايشه متقلبا تارة معه وتارة ضده، تارة مع نفسه وتارة ضدها، كمن يتقلّب على جمر هو فيه قبل أن يحوطه، يفعل ما يفعل ولا يعرف "الأين"، يفعل ما يريد ولا يعرف ما يريد، كله رغبات وآمال، في الحال هذا: عقله المتشائم الصفيح الساخن، وإرادته المتفائلة البرد والسلام.
ثاني ملاحظة: العربي سيد المشهد عبد العدسة وهو البطل كما هو كاتب السيناريو، وبيده لا بيد "عمرو" المخرج، ورغم هذا هو العربي التائه في الفيلم الروائي الطويل المُسمى "الربيع العربي"، حيث أنه في البدء العربي البطل، وفي الخاتمة البطل المهزوم، وفي هذا الحال هذا العربي يتنقل مع عقارب الساعة وفي حال البندول، فيتوهج محبطا، والجانب السيكولوجي عالٍ في توصيف الحال والأحوال وثمة إجماع على ذلكم.
ثالث ملاحظة: حالة الإحباط هي مسار للتفكر والتفكير بل وتعطيل التفكر، والتخبل في الحالة حتى التعتعة والسُكر فيستمرئها ويجمع عليها العربي في الساعة وكل مكان.
هذه الملاحظات من كثير غيرها، لكنها برزت عند الكتابة كتوضيحٍ لمُجمل يكثفه التخبل في واقع الحال، حيث لا تتوفر خطاطة توفر حدا أدنى لتوضيح ما يحدث، ما تأتي تفاصيله بمعلومات تزيد الغامض غموضا وتغمض الواضح، فمنذ انبثاق الربيع العربي والعاجل مستعجل في نشر الجهل والتجهيل بالمعلوم، حتى عاد المجهول سيد الأخبار، كما طائرات مجهولة تُغِير هنا أو هناك.
2-
وسط هاتيك المجاهل تأتي معالم تومض بحال غرائبي كالإصابة بمرض أو حالة مرضية جمعية كما الوباء، وإن لم تشخص كمرض فهي أمر عجائبي. عقب العدوان الجوي الأميركي على ليبيا في 15 أبريل (نيسان) 1986م سارع العقيد معمر القذافي، القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية، بالرد على العدوان، حيث أضاف مفردة جديدة هي "العُظمى" لاسم البلاد، فأصبح "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"!
وهذه الواقعة يتمكن العارف بالعقيد القذافي من تأويلها ضمن إطار جنون العظمة المُصاب به الرجل، ما دفعه لأن يكون "دون كيخوته" العصر، وهذه الواقعة كثيرا ما نسج على منوالها زعماء مماثلون للقذافي في بلدان أخرى.
لقد أراد القذافي ومن يماثله تصدير حالة العظمة التي يعيشها إلى الشعب الذي يحكم باعتباره شعبا عظيما لا مثيل له، وأن تسمى البلاد عُظمى في استعارة واضحة عن المملكة العظمى، كنتيجة لمقدمة هي المواجهة في حد ذاتها للقوى العظمى، ويستدعي هذا حين يرى أنه في مواجهة خارجية هو من يستصغر الشعب الليبي، حتى أنه في لقاء في مقر مؤسسة الأهرام بمحرريها البارزين، ومنهم كتاب ومفكرون، أفصح أنه قائد كبير لبلاد دون شعب أو دون شعب يُذكر. ومن هذا تتبلور وتتضح حالة جنون عظمة هذا الزعيم، ما يؤكدها بالعمل على النقيض بإبراز عظمة الشعب- الذي يحكم- في التاريخ على الخصوص، ومن هذا يمجد ماضي هذا الشعب المُقاوم لقوة عظمى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
3-
لقد لفت نظري أن شعوب الربيع العربي جنحت بقوة إلى توكيد أن لا مثيل لها من الألف إلى الياء، ومن هذا فإن ما قامت به لا نظير له وكل ما يشبهه أقل منه، وهذه الظاهرة تجسدت بقوة في اللحظة الاستثنائية وقت حدوثها، ما انقلب فيما بعد في الحقيقة إلى العكس، أي احتقار الذات.
لكن قبل وبعد فإن الحالة في ذروتها وفي حضيضها تمثل جنون عظمة، فذا الشعب لا مثيل له سواء في صحوته أو سقوطه، لا مثيل له منذ الأزل وإلى الأبد. وعليه خرج الجزائريون عن الربيع العربي، فحراكهم لا نموذج له بل ويجُبُّ ما قبله، ورئيس أركان الجيش أحمد "قائد صالح"، كل أسبوع يظهر لهذا الحراك والشعب ليؤكد بإصرار حثيث على عظمة الجيش المستمدة من عظمة الشعب الذي لا مثيل له، وفي نفس الخطاب لا ينسى أن يُذكّر شعبه بالعشرية السوداء التي نسيها أو تناساها.
أما الميديا الدولية، ثم المحلية التي سُمح لها بمساحة من الحرية، فالخبر عندها الجزائر، وفرنسا على المستوى الرسمي تُشيد أيضا بالشعب الجزائري في حالته المميزة هذه التي كأن المسكوت عنه في خطابها عدم توقع أن يكون الجزائريون في هكذا مستوى. وأنوه بأن هذا الحراك الذي في الصدارة يُتخذ كغطاء لحراك مماثل في السودان يواجه القمع والطوارئ بعيدا عن أضواء هذه الميديا.
أعتقد أن هذه الملاحظة الرئيسة في ملاحظاتي، التي كما أيقونة للربيع العربي في موجاته المتعددة حتى الآن. وكما أشرت في البدء إنني أرصد وأنوّه ولا أبحث ولا أدرس حتى اللحظة الاستثنائية هذه التي تُخرج المنطقة جملة عن مسارها الاعتيادي، كما قطار منفلت عن سكّته ولم يلمس بعد سكة جديدة.