ملخص
لبنان يواجه خطر الحروب المتكررة إذا لم تقم النخبة الشيعية بتقييم الأمور بصورة متزنة وتنهض بعملية إصلاح شاملة تنتهي بترك جانباً كل الأجندات الخارجية والتركيز على بناء المجتمعات التي تمثلها
من مفارقة الأمور أن الشعب اللبناني وممثليه لم يكُن لهم أي دور في اتخاذ قرار الحرب، سواء في حرب تموز عام 2006 أو في حرب الإسناد الأخيرة 2023-2024. ففي الحالتين، كان "حزب الله" هو الجهة التي اتخذت قراراً، أقل ما يقال إنه تترتب عليه تبعات تطاول جميع اللبنانيين، أفراداً ومؤسسات. وفي الحالتين، وجد اللبنانيون أنفسهم في موقع المتفرج، عاجزين عن التأثير في مسار أحداث فرضت عليهم من دون اختيارهم.
وفي الحالتين لم يكُن واضحاً ما هي الإنجازات التي تحققت، خصوصاً أن القرار 1701 (2006) حدد دخول القوات الدولية والجيش اللبناني إلى جنوب الليطاني وانسحاب "حزب الله" إلى شمال النهر، لكن كما تبين أنه لم يُطبق الجزء الأخير من القرار كما لم تلتزم إسرائيل عدم اختراق السيادة اللبنانية بصورة متكررة. واتفاق اليوم يثبّت ما تضمنه القرار الأممي السابق إنما بعد خسائر بشرية ومادية فادحة تعرض لها لبنان، لا بل يمنح إسرائيل حرية التصرف في لبنان لتطبيقه إذا ارتأت ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أثبتت هاتين الحربين أن أي جماعة مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة من "حزب الله" إلى فصائل فلسطينية منتشرة في المخيمات وخارجها قادرة على اتخاذ قرار بتوريط لبنان بناءً على حسابات غامضة أو أقلها غير واقعية وغير متصلة بمصلحة لبنان.
"حزب الله" والبيئة الحاضنة
الحالة الاجتماعية-السياسية القائمة ضمن الطائفة الشيعية ليست نتاج البيئة الحاضنة أي الأفراد، بل غالبيتها هي نتاج أجندة نخب الطائفة السياسية التي أقل ما يقال عنها إنها أودت بالطائفة إلى حال من انعدام الانسجام مع باقي مكونات المجتمع اللبناني، سواء بسبب تصلبها الديني والعقائدي أو انشغالها في المحسوبيات الضيقة أو غياب فكرة دولة المؤسسات عنها، ويضاف إلى ذلك اللجوء المستمر إلى السلاح لتصفية الحسابات الداخلية وشل مؤسسات الدولة، كما نرى في أزمات عمل البرلمان وانتخابات رئيس للجمهورية وعرقلة عمل القضاء (تحقيقات انفجار المرفأ).
لا شيء من هذا سيتغير إذا لم تقُم النخبة السياسية والدينية الشيعية بتقييم الأمور بصورة متزنة وبعملية إصلاح شاملة تنتهي بأن تترك جانباً كل الأجندات الخارجية وتركز على بناء المجتمعات التي تمثلها وإعادة بناء العلاقات مع باقي مكونات الشعب اللبناني الذي يشعر بأنه في موقع المتفرج على كل ما يحدث.
كثيراً ما تحدث "الثنائي الشيعي" عن الشراكة الوطنية وباسمها عطل بغير حق عمل حكومة فؤاد السنيورة (2006-2007) وانتخابات رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان وانتخاب الرئيس في يومنا الحالي، وهي اجتهادات (غير) دستورية يقوم بها الرئيس الدائم للبرلمان اللبناني نبيه بري كيفما يحلو له. وهذا "الثنائي" عطل تحقيقات انفجار المرفأ بحجج واهية تزيد من قناعة المرء بوجود مسؤولية ما له في ما حدث. وبعد كل هذه المطالبات بالـ"مشاركة"، وجدنا أن "حزب الله" تفرد في اتخاذ قرار أكبر من كل قضايا سبق الاختلاف عليها وهو استدراج إسرائيل إلى الحرب. أليس هناك من خلل في هذه المقاربة؟.
وكان واضحاً منحى الحرب الخاسر منذ يوليو (تموز) الماضي في الأقل وبعد تفجيرات الـ"بيجر" كحد أقصى ولكن المكابرة والإنكار أدت إلى دفع لبنان أثماناً كان يمكن تفاديها لو كانت لدى "حزب الله" الشجاعة في إعادة تقييم الأمور في لحظتها.
ولا شك في أن البيئة الحاضنة تتغذى بفائض القوة الذي خلقه "حزب الله"، وبينما هذه القوة لا تقوى على الآلة العسكرية الإسرائيلية فهي لا ترى أي مشكلة في توجيهها ضد المناطق اللبنانية التي لا تتوافق سياسياً معها كما رأينا في السابع من مايو (أيار) عام 2008 وأحداث الطيونة عام 2021، فبالنهاية المطلوب تحقيق انتصارات ما أينما كانت الجبهة.
إن هذه التصرفات إن لم تتغير، سيعاني اللبنانيون ويلات تقاتل داخلي لأن فائض القوة هذا يجب أن يتسرب إلى مكان ما.
التحول المنشود
لن تثور الطبقة الشيعية العامة على قيادتها، والوجوه المثقفة العلمانية أو الدينية المستنيرة في الطائفة غير قادرة على بناء حالة تستقطب أبناء الطائفة. إن الطريق الوحيد هو الرهان على استفاقة النخب الشيعية الحالية أو تمريرها سلطتها إلى وجوه جديدة منفتحة، لأن مسؤولية النخب هي قيادة مجتمعاتها نحو الازدهار والسلام والثروة وليس نحو أهداف خيالية لا تمت للواقع بصلة أو نحو الموت والدمار وإطلاق مختلف أسماء الانتصار على ذلك.
إن تحلّت النخب الشيعية بالشجاعة الكافية للنقد الذاتي واستخلاص العبر من كل أحداث الأشهر الماضية، ودفعت مجتمعها إلى الاستثمار في تطوير لبنان والمساهمة في نهضته، فقد نكون أمام صورة متفائلة خلال خمسة أعوام من الآن، حين تصبح خلافاتنا سياسية وليست مذهبية وحين لا يعود هناك من مقدسات سوى الوطن نفسه ورموزه ودستوره وقوانينه، ويصبح مكان حل الخلافات في القضاء وطبقاً للقانون وليس في الشوارع والسلاح.
إن العالم يعيش في زمن لا تتحقق فيه الأهداف عبر هجمات عبثية مثل هجوم حركة "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، ولا عبر إطلاق "صليات" صاروخية على تل أبيب، ولا حتى من خلال غارات إسرائيلية بربرية على قرى ومدن لبنان، نحن لسنا في زمن تجري فيه الحروب بمعزل عن السياسة الدولية لأن الانتصار الميداني لا يعني شيئاً إذا عزلت نفسك عن النظام الدولي، والسيطرة على الأرض لا تعني شيئاً إذا تم التفريط بالإنسان الذي هو أساس كل شيء.
وأخيراً، ليس أجمل وأصوب من كلمات جهاد الزين، الكاتب الصحافي اللبناني الذي كتب منذ أيام "ما أجمل لبنان وكم هو قوي في أن يسلك خيار الدعم المدني الثقافي الإعلامي السياسي للقضية الفلسطينية بجامعاته ومدارسه وصحافته وإعلامه وهيئاته المدنية الراسخة وهي لا تزال الأقوى في الشرق الأوسط، خصوصاً في العالم العربي، وما أضعفه في الدعم العسكري وكم هو هش وهزيل وعبثي وانتحاري وتدميري في هذا الدعم العسكري".