تحظى معركة السيطرة على مدينة سرت وسط ليبيا باهتمام كبير داخل البلاد وخارجها، كونها نقلة حقيقية في النزاع الليبي المتقد منذ سنوات.
فدخول قوات الوفاق إليها، يعني نقل المعركة من الغرب إلى داخل قواعد الجيش الوطني شرقاً، وهذا إن حدث سيغير تماماً قواعد اللعبة، ويدفع لاعبين جدد للتدخل على رأسهم مصر.
في المقابل، نجح الجيش الوطني في صد الهجوم الواسع الأول على المدينة، يومي الأحد والاثنين 7-8 يونيو (حزيران) الجاري، وإبعاد قوات الوفاق إلى مسافة تجعل سرت آمنة إلى حين، مرتكزاً في صد الهجوم على غارات جوية مكثفة، أربكت القوات المهاجمة، ودفعتها إلى التراجع.
أتت هذه التطورات العسكرية، بعد نهاية المهلة التي منحها الجيش، والبرلمان الليبي، في مبادرة أعلنت من القاهرة برعاية مصرية، وانقضت صباح أمس الاثنين، لوقف إطلاق النار، والعودة إلى طاولة الحوار، وهو ما رفضته حكومة الوفاق وقواتها، بإصرارهما على مواصلة العمل العسكري، والتقدم نحو سرت، وما بعدها.
هدوء وترقب
يقول عضو شعبة الإعلام الحربي التابعة للجيش الوطني، محمد العزومي في حديث لـ "اندبندنت عربية"، إن "الجيش بات يسيطر بشكل شبه كامل على منطقة غرب سرت، لمسافة 100 كيلو متر على الأقل، مع سيطرة كاملة على الأجواء، من قبل طائرات الجيش حتى مشارف مصراتة، بعد تحييد شبه تام للطائرات المسيرة التي كانت تجول في هذه الأجواء، مسببة الكثير من المتاعب لقوات الجيش".
ويضيف "أن هذه العمليات تسببت في تراجع كبير للميليشيات المسلحة، إلى مشارف مصراتة، في منطقة السدادة تحديداً، التي لا تبعد سوى 50 كيلو متراً، شرق المدينة، هرباً من الضربات الجوية"، مؤكداً في الوقت ذاته على أن "قوات الجيش لم تتقدم عن مواقعها السابقة الدفاعية، غرب سرت، التزاماً بتعهداتها التي أعلنتها في مبادرة القاهرة، حتى إشعار آخر".
من جانبه، يؤكد الناطق باسم القيادة العامة للقوات المسلحة اللواء أحمد المسماري، "مواصلة العمليات العسكرية للجيش، بعد رفض حكومة الوفاق لمبادرة إعلان وقف إطلاق النار، التي أعلن عنها في القاهرة".
وقال المسماري، في مؤتمر صحافي من بنغازي "رُفِضت المبادرة من الطرف الآخر، وعليه فإن العمليات العسكرية مستمرة"، مشدداً على أن "القوات المسلحة ستحافظ على وحدة ليبيا، وتعمل لاستعادة الأمن والاستقرار".
أهمية سرت
تعد مدينة سرت، واحدة من أهم المناطق في خريطة النزاع الليبي، لامتلاكها ميزات جيوستراتيجية، وتاريخية، واقتصادية عدة، فهي تقع في منتصف المسافة تماماً، بين عاصمتي النزاع الليبي بنغازي، وطرابلس، حيث تبعد عن كليهما مسافة 500 كيلو متر، وهي حلقة الوصل بين شرق ليبيا، وغربها، وجنوبها.
من الناحية التاريخية، سرت هي مسقط رأس الرئيس السابق لليبيا معمر القذافي، ولد فيها وقتل، وعمل لسنوات على تهيئتها لتكون عاصمةً للبلاد، وضخ فيها لتحقيق هذا الحلم مليارات الدولارات لتحسين بنيتها التحتية، وإنشاء مقرات حيوية، ويكفي أنها المدينة التي أعلن فيها تأسيس الاتحاد الأفريقي عام 1999، من القرن الماضي.
اقتصادياً، تحوي أرض سرت في باطنها، أكبر مخزون غاز مكتشف في ليبيا، في حوض جوفي يحمل اسمها "حوض سرت"، الذي يعد واحداً من أهم أسباب التنافس المحموم بين إيطاليا، وفرنسا في الملف الليبي، حيث تخوض الشركتان العملاقتان "إيني وتوتال" صراعاً منذ سنوات، للفوز بحصة الأسد في الامتيازات المستقبلية للتنقيب، والاستثمار في هذا الحوض الكبير، الذي يحوي أيضاً مخزوناً لا بأس به من النفط، بحسب المعلومات الواردة عن المؤسسة الليبية للنفط.
كما تمتلك سرت، ميناءً يعد بين الأكبر في ليبيا، يطل على خليج طبيعي واسع، ومطاراً دولياً، وقاعدة جوية عسكرية كبيرة، تكمن أهميتها في موقع المدينة في قلب البلاد تماماً، ما يجعل القاعدة نقطة انطلاق مناسبة للطائرات، في أي اتجاه أرادت المضي إليه في ليبيا .
خط دفاع الهلال النفطي
تتمتع سرت بميزة أخرى إضافة إلى ما سبق، كونها خط الدفاع الأخير، عن الهلال النفطي الليبي، الذي يحوي أهم أربعة موانئ نفطية في البلاد، التي تصدر 80 في المئة من النفط الخام، الذي تنتجه ليبيا يومياً، وهذه الموانئ هي "رأس لانوف والبريقة، والسدرة، والزويتينة ".
لا يفصل هذه الموانئ عن مدينة سرت، سوى 150 كيلو متر باتجاه الشرق، ما يفسر الاستماتة في الدفاع عنها، والهجوم عليها في المعركة الحالية من الطرفين ، فسقوطها يفتح أبواب المنطقة التي تمثل عماد الاقتصاد الليبي، وشريانه الرئيس .
تكمن أهمية المنطقة الممتدة من سرت إلى الهلال النفطي في الصراع الحالي، في احتوائها على الجزء الأكبر من الثروة النفطية الليبية، ما عبّر عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريحات تلفزيونية، أمس الاثنين بقوله "إن مدينة سرت ومحيطها مهمة لوجود آبار النفط، وبعد ذلك ستكون العمليات أكثر سهولة، لكن وجود آبار النفط والغاز يجعل هذه العمليات حساسة".
كلمة الفصل في الصراع الحالي
إضافة الى كل المزايا الاستراتيجية السابقة لسرت، التي تمنحها أهمية كبرى في الصراع الليبي، اكتسبت السيطرة على المدينة مزايا جديدة، بعد التحولات الأخيرة في المشهد الليبي، حتى باتت كلمة الفصل، في حسم جزء كبير من النزاع الحالي.
على رأس تلك التحولات، مبادرة القاهرة التي رسمت ضمنياً خطاً أحمر غرب سرت، لا يمكن السماح بتجاوزه، بالنسبة إلى الأطراف الثلاثة التي أطلقت المبادرة، الحكومة المصرية، والبرلمان والجيش الليبيين.
ويبيّن الباحث والأكاديمي الليبي فرج الجارح، في حديث لـ "اندبندنت عربية" خطر سقوط سرت بالنسبة إلى الأضلاع الثلاثة لمبادرة القاهرة، قائلاً إن "مصر من جانبها ترى في تجاوز سرت من قبل قوات الوفاق، خصوصاً بعد تحالفها العسكري مع تركيا، توغلاً في العمق الاستراتيجي للأمن القومي المصري، الممثل في إقليم برقة أو المنطقة الشرقية من ليبيا".
ويضيف "حساسية هذا الأمر بالنسبة إلى القاهرة، دفعها لتحريك جيش جرار على الحدود الليبية للتعامل مع هذا المنعطف الخطير لو وقع، حماية لأمنها".
ويشير إلى أن "الجيش والبرلمان من جهتهما، ينظران إلى توغل قوات الوفاق لما بعد سرت دخولاً إلى قواعدهما الرئيسة، وخسارة معركتهما الطويلة، ونهاية فصولها من حيث بدأت، في الشرق الليبي، ولذلك سخّر الجيش كل ما يملك من إمكانات عسكرية، للدفاع عن المدينة".
من جانبه يشير رئيس تحرير صحيفة الوسط الليبية محمود شمام إلى أنه "لا يجب التعامل مع المبادرة المصرية، على أنها تهدف إلى تنظيم الانخراط السياسي، بل أرى فيها إلى حد كبير تنظيماً للمواجهة العسكرية ".
ويضيف "هي سياسياً مبادرة عقيلة صالح، لكنها تحاول أيضاً رسم خط على الأرض هو سرت، وأي تجاوز لهذا الخط يعني تغيير صفة اللاعبين واسم اللعبة".
ويؤكد ضرورة "تشجيع حل ما في سرت، والاتفاق على أنها خط الهدنة لا خط الحرب، حتى انتهاء المفاوضات الكاملة".