بلغت تظاهرة الاحتجاج في مدينة "بريستول" البريطانية التي نُظّمت ضمن حملة عالمية بعنوان "حياة السود مهمّة" Black Lives Matter ذروتها يوم الأحد الماضي، بإسقاط تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون، الذي كانت المدينة الواقعة جنوب غربي البلاد تحتفل به لعقود من الزمن، بوصفه مجرّد "فاعل خير". كنتُ حينها بين المتظاهرين الذين احتشدوا في موقع النصب، وعندما سقط التمثال، شعر الجميع بأن معركتنا ضدّ ظلم الأشخاص من ذوي البشرة الملوّنة قد بلغت أخيراً مستوى جديداً ومهمّاً.
لقد أتيتُ إلى "بريستول" في 2015 بوصفي صحافيةً أجنبية، للكتابة عن ثقافة المدينة، وتقاليدها في الاحتجاجات، بناءً على مسيرة أشهر فنانيها. وما أن بدأتُ البحث المتعلق بكتابي، حتى ظهرت لي معلومات كثيرة عن كولستون. قرّرتُ العودة إلى هنا ["بريستول"] مرّة أخرى في الفترة الأخيرة، لأنني شعرتُ، كما أوضحتُ لأحد أصدقائي في وقت سابق من هذه السنة، أن معظم مشكلات القرن الحادي والعشرين بدأت في إنجلترا، وهي المكان الذي سننطلق منه بهدف إيجاد حلول لها.
بدأت تظاهرة الاحتجاج في "بريستول" ردّاً على مقتل الأميركي جورج فلويد، على غرار احتجاجات أخرى، بإلقاء بعض الخطب المتعلّقة بالعدالة الاجتماعية، تلاها ركوع المحتشدين بصمت لثماني دقائق. ثم انطلقت مسيرةٌ بطريقة سلمية في اتّجاه وسط المدينة، قاصدةً تمثال إدوارد كولستون سيّئ الصيت. وعندما أسقطه محتجّو حملة "حياة السود مهمّة" أخيراً، قرابة الثانية والنصف بعد الظهر، بعد ساعة ونصف من انطلاق المسيرة، دوّت صيحات الابتهاج من حناجر حشدٍ متعدّد الثقافات، والأجيال.
في ذلك السياق، أشار جون ماك آليستر أحد المتظاهرين المسنّين (71 عاماً)، إلى أنه يتردد بشأن كون "التمثال قد صُنِعَ مِنْ قِبَل مواطني "بريستول" كي يكون نصباً تذكارياً لأحد أكثر أبناء هذه المدينة لطفاً وحكمة". ولفت إلى أن "هذا الرجل كان تاجر رقيق. صحيح أنه كان كريماً مع المدينة، لكنه فعل ذلك على حساب العبودية، وهذا أمرٌ خسيس للغاية ويشكّل إهانة بالنسبة إلى أبناء "بريستول" كلهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في خطوة تالية، عملت مجموعةٌ من المحتجّين على سحب بقايا التمثال نحو نهر المدينة، وألقت به في الماء في مكانٍ مواجهٍ لجسر "بيرو" الذي يحمل اسم رجل كاريبي اشتُهِرَ بكونه عبداً لتاجرٍ يُدعى جون بيني.
ويُظهر ما حدث في بريستول يوم الأحد الماضي، أن الجدل المتعلّق بالإرث الاستعماري البريطاني، قد عُلّق لفترةٍ طويلة. وإذا كان مقبولاً سياسياً حتى القرن التاسع عشر الاحتفال بهذا النوع من "العمل الخيري" المستند إلى العبودية، فإن التغيير المطلوب حدوثه قد تأخّر لفترةٍ طويلة. وقد ذُكر أن شركة "كولستون" وحدها نقلت أكثر من 100 ألف عبدٍ من غرب إفريقيا إلى منطقة البحر الكاريبي والأميركتين، بين عامي 1672 و1689.
وفي ما يتعلّق بي أنا، بما أن عائلتي قد تأثّرت بشدّة من الاستعمار في مكانٍ آخر من العالم، فإنه من المحيّر أن أسمع بعض الإنجليز يدافعون عن التمثال، مستندين إلى فهمهم لتاريخنا المشترك. إذ لا تصنع فرنسا نصباً لتكريم الماريشال فيليب بيتان، ولا ألمانيا لأدولف لهتلر، لمجرّد إحياء ذكرى الماضي الإجرامي.
وتبقى مسؤولية التغيير ملقاة علينا. ففي فرنسا، جرى الاعتراف بكون الرقّ جريمة ضدّ الإنسانية، منذ 2001. ومع ذلك تطلّب الأمر حتى ما قبل بضعة أيام، كي يجري إنزال تمثال السياسي فيكتور شولشير في جزر المارتينيك.
ويُعدّ سقوط تمثال إدوارد كولستون في "بريستول" فاتحة لمواقف كثيرة، إذ يؤشر إلى وجوب أن تتعامل المملكة المتحدة الآن مع ماضيها بشكل مختلف. وقد كتب المؤرّخ النيجيري البريطاني ديفيد أولوسوجا قبل أيام، أنه يمكن انتشال التمثال من الماء في مرحلة ما، ووضعه في متحف المدينة، حيث كان يجب أن يكون منذ فترةٍ طويلة".
وعلى مدار أعوام مديدة، عبّر بعض الفنّانين الذين وُلدوا في المدينة عن هذا المنحى، بمَن فيهم أعضاء فرقة "ماسيف آتتاك" Massive Attack الموسيقية الذين شاركوا في المسيرة مع المتظاهرين. وقد غرّدوا عبر حساب الفرقة على "تويتر" معتبرين "إن رفع تمثال لتاجر رقيق يتناقض بشدّة مع هويّتنا المدنية. إن العمل الخيري المستمدّ من جرائم ضدّ الإنسانية هو أجوف كالتمثال نفسه". وخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، صُنع التاريخ في المملكة المتّحدة. وبدأ المسار من مدينة "بريستول".
( ميليسا تشيمام صحافية مستقلّة ومحاضرة مشاركة في مادة الصحافة في "جامعة غرب إنجلترا، بريستول"، ومؤلّفة كتاب Massive Attack - Out of the Comfort Zone (2019).أعدّت تقارير عن قضايا الهجرة في شرق إفريقيا ووسطها وفي أوروبا الغربية، لمصلحة شبكة "بي بي سي" ومؤسّسات تلفزيونية دولية أخرى)
© The Independent