حتى الأشهر الأخيرة، أي قبل انتشار جائحة كورونا وما حملته من تداعيات اقتصادية وسياسية، كانت القيادة الإيرانية، خصوصاً حكومة الرئيس حسن روحاني وإدارته الدبلوماسية، على اعتقاد شبه واقعي بأن الرهان على خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للانتخابات، رهان على المجهول.
لذلك بذلت كل ما لديها من جهود لفتح كوة في جدار تعنّت المواقف، إن كان على المستوى الداخلي في إيران، أو على المستوى الأميركي داخل إدارة ترمب، للحد من تداعيات أي تصعيد قد يلجأ إليه بعد انتخابه، وقطع الطريق على رفع وتيرة الحصار الأميركي لاحقاً، بالتالي التوصل إلى وضع أسس لحوار يخرج إيران من المأزق الذي تعانيه بأقل خسائر ممكنة، إن كان على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الإقليمي.
وبعيداً من قدرة الأنظمة الديمقراطية على إعادة انتاج نفسها والتكيف مع التحديات والأزمات التي تواجهها وتجاوزها، فإن الأزمة الأخيرة التي بدأت مع الجائحة الوبائية والإرباك الذي أصاب الإدارة الأميركية في التعامل معها، وصولاً إلى انفجار حركة اعتراضية ضد التمييز العنصري بعد مقتل جورج فلويد، دفعت هذه الأزمات النظام الإيراني للتريث في الذهاب لاعتماد مسار تفاوضي مع واشنطن للخروج من المأزق الذي تواجهه على مختلف المستويات، من منطلق انتظار ما قد يسفر عنها من تطورات قد تقلل من جهة حجم الأثمان المطلوب دفعها.
ومن جهة أخرى، الرغبة في عدم استثمار الايجابيات التي بدأت تظهر من خلال عمليات تبادل المعتقلين سابقاً (الأميركي جيف وانغ والإيراني مسعود سليماني)، إضافة إلى الإفراج عن أموال إيرانية محتجزة في بروكسل بلغت قيمتها نحو مليار و700 مليون دولار، لتعزيز هذا المسار التفاوضي والبناء عليه وتطويره، للوصول إلى إنهاء حالة المواجهة القائمة والتقدم باتجاه بناء اتفاق جديد يلبي حاجات الطرفين بالحد الأدنى.
لجمُ الاندفاعة الإيرانية التي برزت بشكل واضح لدى الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، لم تكن بناءً على أي معطيات تتحدث، عن عامل الحاجة الأميركية لذلك، بل بفعل ارتفاع منسوب المعارضة الداخلية التي استدعت أيضاً تدخلاً مباشراً من المرشد الأعلى للنظام لكبحها، إنطلاقاً من الخوف لدى دوائر القرار في طهران بأن تؤدي إلى سلسلة من الخسائر والتراجعات في ظل ارتفاع منسوب الضغوط الأميركية الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية التي تبلورت بعملية اغتيال قائد قوة القدس في حرس الثورة الجنرال قاسم سليماني.
إلا أن العامل الثاني الذي ساهم في الحد من هذا المسار داخل النظام الإيراني، يعود إلى القراءة التي قامت بها القيادة في طهران، للأوضاع الداخلية الأميركية ومدى انعكاسها على موقع ترمب في معادلة العودة إلى البيت الأبيض.
ورأت طهران نوعاً من التراجع وتساوي الفرص بالحد الأدنى بين الرئيس ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، وعزز ذلك التغريدة الأخيرة لترمب التي دعا فيها إيران للتفاوض والتوصل إلى اتفاق جديد من منطلق استغلال الفرصة قبل عودته ثانية إلى البيت الأبيض "سأفوز في الانتخابات".
في المقابل، استدعى ذلك رداً موارباً من ظريف الذي دعا ترمب لإعادة النظر بالسياسات التي اتبعها ضد إيران بناء على رأي مستشارين عمد لاحقاً إلى إبعادهم، وأدت الى قرار الخروج من الاتفاق النووي الذي ما زال قائماً بفعل التزام إيران والدول الأخرى الشريكة به، والباب ما زال مفتوحاً أمام البيت الأبيض للعودة إليه وتفعيل العمل به.
من جهة ثانية، يبدو أن الموقف الإيراني لا يذهب إلى الحسم السلبي من إمكانية عدم التفاوض مع إدارة ترمب، إلا أن هذه التطورات سمحت له باللعب على عامل الوقت من دون إقفال الباب على أي إمكانية لاتخاذ خطوات ايجابية من الطرفين على طريق أي تفاوض محتمل، وهو ما تحاول القيادة الإيرانية اللعب عليه من خلال التفاوض المجزأ وعزل الملفات عن بعضها البعض وعدم فتحها جميعاً كي لا يفهم أنه تراجع أمام الضغوط الأميركية.
وانطلاقاً من اعتقاد طهران بتساوي الفرص بينها وبين ترمب وفريقه في ما يتعلق بأزمة الملف النووي على اعتبار أن التوتر القائم بينهما سينتهي إلى طاولة المفاوضات على اختلاف الأوضاع والشروط، بالتالي فإن بإمكان هذه القيادة، وبحسب اعتقادها ترك "الباب موارباً" بانتظار المستجدات التي بات موعدها قريباً في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وعلى الرغم من تفاؤل العديد من المسؤولين الإيرانيين باقتراب هزيمة ترمب في الانتخابات، خصوصاً مستشار الرئيس حسام الدين أشنا الآتي من وزارة الأمن، يبدو أن البراغماتية التي لجأ إليها النظام ووزارة الخارجية باعتماد سياسة الباب الموارب في التعامل مع إدارة البيت الأبيض، لا تقطع أي إمكانية للتفاهم على ملفات لا تعتبر ذات أهمية كبرى بينهما، إلا أنها تحمل رسائل إيجابية عن أفق أي تعاون وتفاهم مستقبلي واستعداد طهران لتطويرها نحو الأفضل.
ومن ناحية أخرى، تبقى الأزمة الأساسية معلقة بانتظار المستجدات الانتخابية، أي في حال عاد ترمب إلى البيت الأبيض فإن طهران ستعمد إلى توظيف الخطوات الإيجابية في التعاون المحدود من أجل تطويرها باتجاه الخطوة التالية لمفاوضات أوسع وأعمق.
وفي حال عدم عودته فإن الرئيس الديمقراطي المقبل سيكون أكثر تعاوناً وأقل عدائية من سلفه الجمهوري. إلا أن هذه الحسابات الإيرانية تسقط احتمالية أن يذهب ترمب في حال عودته إلى مزيد من التشدد، خصوصاً أنه لن يكون محكوماً بالتفكير في تجديد رئاسته، بالتالي إمكانية أن يذهب لمواجهة مفتوحة وضغوط أوسع على النظام الإيراني، ستكون محتملة بشكل كبير.