إثنان على الأقل من كتّاب القرن العشرين اعتبرا هرمان بروخ واحداً من كبار روائيي القرن، حتى وإن كان لكل منهما رواية من بروخ يفضلها من دون إهمال رواية كبرى أخرى له. فبالنسبة إلى هانا آرندت كان العمل الأكبر الذي كتبه بروخ روايته الأخيرة "موت فرجيل"، أما بالنسبة إلى ميلان كونديرا فإن تفضيلاته كانت تذهب إلى رواية بروخ الأولى، "السائرون نياماً". والحال أن ليس من العسير فهم موقف الكاتبين. فآرندت كانت فيلسوفة نظرت إلى ما في "موت فرجيل" من قيم وأفكار فلسفية، أما كونديرا فروائي ومن الواضح أن ما عناه في "السائرون نياماً" تجديداتها الروائية التي تضعها في قلب الحداثة إلى جانب "يوليسيس" جيمس جويس و"البحث عن الزمن الضائع" لبروست، أو حتى "الرجل البلا سمات" لروبيرت موتزيل. ومع هذا لا بد أن نذكر أن بروخ الذي دخل معترك الكتابة الروائية وهو في الخامسة والأربعين، كتب إلى ناشره بصدد روايته الأولى يقول إنه يعتبرها عملاً فلسفياً أراد بها أن يصيغ أفكاراً تأملية رأى أن لغة الفلسفة لا يمكنها أن تفيها حقها. ومن هنا كانت آرندت محقة حين عنونت أحد مقالاتها البديعة عن بروخ "بروخ كاتباً رغم أنفه". ومع ذلك لا تشي "السائرون نياماً" بذلك.
في حقيقة الأمر ليست "السائرون نياماً" رواية واحدة، بل هي ثلاثية لا تخلو أجزاؤها من تكامل في ما بينها، ولا سيما أن الشخصيات الثلاث المحورية في كل جزء يحدث لها أن تتلاقى وتتفاعل حتى من دون أن يعني ذلك توحّداً في المصائر أو شبكة العلاقات. كذلك فإن أحداث الأجزاء – الروايات – الثلاث لا تدور في مكان واحد ولا في زمان واحد، ناهيك بأن أسلوب الكتابة ليس واحداً. وفي رأي كونديرا أن هذا ما يصنع لـ"السائرون نياماً" قوتها و... فرادتها.
رومانطيقية فوضوية وواقعية مدمّرة
تدور أحداث الرواية الأولى وعنوانها "بازناف أو الرومانطيقية" في العام 1888، فيما تدور أحداث الرواية الثانية "إش أو الفوضى" العام 1903، وأحداث الرواية الأخيرة "هوغينو أو الواقعية" في عام 1918، ما يعني أن ثمة 15 عاماً تفصل كل رواية عن الأخرى، وأن الثلاثين سنة التي تشهد سرد "سير" الأشخاص الثلاثة الذين يُذكرون في العناوين ليست في حقيقتها سوى العقود الثلاثة من السنين التي شهدت تلك التغيّرات الكبرى التي عاشتها أوروبا متنقلة بين أمواج التبدلات الذهنية التي تحولت من نزعة رومانطيقية كانت في ألمانيا، مكان الأحداث بشكل عام، نتاج التنوير والاعتقاد بأنه حان للإنسان أن يمسك مصيره بين يديه، كما كان يؤمن بازناف "بطل" الرواية الأولى، إلى الفوضى التي سادت الذهنيات؛ ونراها في الرواية الثانية من خلال إش المحاسب الذي يُطرد من عمله في شركته التي لا تريد له أن يكون مغالياً في تدقيق الحسابات؛ وصولاً إلى "واقعية" هوغينو الذي لا يؤمن إلا بالمنطق العلمي وحدّد لنا بروخ في نهاية الرواية الثالثة والأخيرة أنه سيكون الرحم الذي سيولد منه الإنسان الفاشي في الأزمان المقبلة. ومن هنا لا يكون غريباً اختلاف الرواية الثالثة كلياً عن السابقتين بإدخال الكاتب نصوصاً فلسفية فيها – ولا سيما نصاً عنوانه "انهيار القيم" وحكايات متنوعة تبدو للوهلة الأولى غير ذات علاقة بالسرد. ناهيك بأن في هذا الجزء يتم اجتماع الشخصيات السابقة معاً في نوع من استباق الخلط الفكري الذي يسود في القرن العشرين.
طبعاً ليس من الممكن هنا الإمعان في الحديث عما يجري في ما يزيد على سبعمئة صفحة تتألف منها الثلاثية في مجموعها. ولكن عندما يقول الكاتب الألماني الكبير توماس مان، عن رواية لبروخ إنها من الأعمال الأكثر أساسية، وحداثة في زمننا هذا، "رواية كتبت بشكل جريء، جديد، مفاجئ. إنها رواية تسحر، وتضع كل من يقرأها تحت خيمة سحرها بشكل لا رادّ عنه"، من المؤكد أن رغبة ستستبد بنا لقراءة بروخ.
ولا ريب في أن بروخ، هو الكاتب النمسوي، الذي تدين له اللغة الألمانية بأفضل استخدام في مجال الرواية. والحال أن هرمان بروخ كان من قوة اللغة في كتابته إلى درجة جعلت أعماله تستعصي على الترجمة حيث أنها تفقد خلال ترجمتها جزءاً من جمالها، بحسب ما قال النقاد عنه. ومع هذا فإن أدب بروخ لم يكن أدب لغة فحسب، بل كان أدب موضوع أيضاً، وواحداً من الآداب الروائية - بخاصة - الأكثر دلالة في القرن العشرين، حتى وإن كان قد تُرجم أقل من أي كاتب ألماني أو نمسوي آخر من أبناء جيله، وفاته قطار الشهرة، أو على الأقل وصله متأخراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى المنفى هرباً من النازيين
مثل كثر من الكتّاب والفنانين النمسويين، ولد بروخ في فيينا (1886)، ومات في نيويورك (1951)، هو الذي سلك طريق المنفى على غرار غيره من كبار المبدعين، في اللغة الألمانية، حين سيطر النازيون على الحكم في ألمانيا ثم احتلوا النمسا. ولد هرمان ابناً لعائلة صناعية كبيرة مما أهّله للالتحاق بالدراسة الجامعية حيث انكبّ على دراسة الفلسفة والرياضيات وعلم النفس، وأضحى جزءاً من الإنتلجنسيا الطليعية في فيينا، ثم ما نلبث أن نجده يحقق متأخراً رغبات أدبية ويبدأ ينشر القصص القصيرة والروايات بادئاً بروايته الثلاثية التي ستنال شهرة واسعة في ما بعد "السائرون نياماً" التي نشرها في 1931 و1932، والتي شبّهها الكثيرون برواية روبرت موزيل «الإنسان البلا ملامح». كان هدف بروخ من روايته أن يصوّر "انهيار القيم" من خلال رسمه حياة أجيال تبدأ في 1888، عبر شخصية شاب من بروسيا يكتشف العالم الحديث، ساعياً إلى الهرب من واقعه وتتواصل حتى العقود الأولى من القرن العشرين، وسط عالم الانحطاط والخيبة والانهيار.
غير أن "السائرين نياماً" لن تعتبر بالنسبة إلى كثر من المفكرين أكبر أعمال بروخ، فهذه المكانة ظلت لفترة طويلة محفوظة لروايته "موت فرجيل" التي بدأ كتابتها باكراً في النمسا ثم استأنفها في المنفى، ولم تنشر كاملة إلا في 1945. وهي منذ نشرت للمرة الأولى نالت تقريظ النقاد حتى وإن كانوا قد تلمسوا فيها أقصى درجات الصعوبة، موضوعاً ولغة. والرواية هي في نهاية الأمر مناجاة طويلة وداخلية تروي للقارئ الساعات الأخيرة من حياة الشاعر اللاتيني فرجيل. أما الموضوع الأساسي للرواية وللمناجاة فهو متمحور من حول السؤال التالي: هل على فرجيل أم ليس عليه أن يدمر مخطوطة كتابه الأساسي "الإنيادة" قبل أن يرحل عن هذا العالم؟
الكتابة المعرفة والزمن
منذ صدورها لفتت "موت فرجيل" الأنظار، وحيّاها كبار الكتّاب والنقاد من توماس مان إلى ألدروس هكسلي اللذين وجدا فيها حداثة مفرطة، وسرداً للشرط الإنساني قوامه اللغة وعلاقة اللغة بالزمن.
من بين أعمال هرمان بروخ الكبيرة يبقى عملان، هما روايتاه الأخيرتان "اللامسؤولون" (1950) و"المغري" (1953). وهاتان الروايتان تبدوان أقل قيمة لمجرد أنهما أكثر مباشرة من الروايتين الأولىين.
إلى جانب الروايات كتب هرمان بروخ العديد من الدراسات، غير أن دراساته ومقالاته على تنوعها لم تلق من الشهرة ما كانت لاقته رواياته، بل إن معظم مقالاته لم ينشر إلا في وقت لاحق، حين جمعت دراسات نقدية أدبية له تحت عنوان عام هو "الإبداع والمعرفة" (1955). وفي دراسات هذا الكتاب، كما في نصوصه الروائية، يبدو لنا هرمان بروخ متسائلاً كدأبه دائماً عن مشروعية الكتابة، وعن علاقة الكتابة بالمعرفة وبالزمن. ومن الواضح أن هذا الكاتب النمسوي الذي ولد وعاش أجمل سنوات حياته في فيينا "الكابوس السعيد" ظل مأخوذاً حتى النهاية بما كان يعتبره مشكلة المشاكل: مشكلة الكتابة، انطلاقاً من سؤاله الدائم: لماذا نكتب؟ وهل للكتابة من جدوى؟