أمن سياسيون وأكاديميون سودانيون على دور التعداد السكاني المزمع تنفيذه نهاية المرحلة الانتقالية الحالية في التوزيع العادل للثروة والسلطة بشكل متوازن، وبناء خطط تنموية على أسس علمية ومعلومات دقيقة، فضلاً عن تحديد حاجات المناطق الفعلية من تعليم وصحة ومياه وكهرباء، وغيرها من الخدمات، بعيداً من الترضيات الآنية الضيقة التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة.
وأشار هؤلاء في حديثهم إلى "اندبندنت عربية" إلى أهمية مراعاة عددٍ من المفاهيم والأطر التي من شأنها إنتاج تعداد سكاني أكثر دقة وشفافية، من أهمها تعميق مفهوم ثقافة المواطنين بماهية الإحصاء السكاني واتّباع الطرق الحديثة باستخدام نظم المعلومات الجغرافية المكانية، فضلاً عن تحديد الانتماء الديني لمعرفة حجم الوجود الديني للمسلمين والمسيحيين في البلاد لأهميته في مسألة علاقة الدين بالدولة وغيرها.
ورش عمل
في هذا الشأن، يقول عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوداني صديق يوسف، "تعتبر مسألة التعداد السكاني من أهم القضايا التي يجب إنجازها بشكل دقيق، وهي من مهمات المرحلة الانتقالية التي نصّت عليها الوثيقة الدستورية لارتباطها بخطط التنمية والعملية الانتخابية، وفي اعتقادي أنه يفترض أن تُنجز هذه العملية في النصف الثاني من المرحلة الانتقالية، على أن تُحدّد بعدها الدوائر الانتخابية في مناطق السودان كافة".
ويلفت إلى أنه من المهم جداً إجراء إحصاء سكاني وفق معلومات دقيقة وشفافة، خلافاً لما كان يحدث في العهد السابق، من أجل بناء خطط تنموية على أسس علمية سليمة ومعلومات صحيحة.
ويضيف يوسف "تتطلّب هذه العملية مشاركة الجماهير والاستفادة من تجاربهم وخدماتهم، خصوصاً لجان المقاومة والتغيير في الأحياء باعتبارهم حراس ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أحدثت هذا التغيير والحريات، فهذه القوة الحية يجب أن توكل إليها هذه المهمة، وأن تبدأ منذ الآن تنفيذ هذا العمل من خلال إحصاء مبدئي لسكان الأحياء كافة، وهذا يحتاج إلى إقامة ورش عمل لتدريب الشباب وتأهيلهم ومساعدتهم في القيام بهذه المهمات بدقة وشفافية".
ويوضح أنه على الرغم من ضخامة هذه العملية، لكن من الممكن القيام بها من خلال عمل طوعي كبير، لكن في الوقت ذاته، يجب على الجهات الحكومية ربط الخدمات التي تُمنح للمواطنين بتقديم شهادة إثبات سكن من الحي.
وحول علاقة التعداد السكاني بالسلام وعودة النازحين بسبب الحرب في مناطقهم، يجيب عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي "هذه العملية غير مرتبطة بتنفيذ السلام، أو عودة النازحين واللاجئين، لأن هؤلاء موجودون في معسكرات معروفة وحصرهم سيكون أسهل من عودتهم إلى مناطقهم، وكذلك بالنسبة إلى المواطنين الموجودين في مناطق النزاعات، خصوصاً منطقة جنوب كردفان التي تسيطر عليها الحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو، فلا أعتقد أنه ستكون هناك موانع تحول دون مشاركتهم في عملية التعداد السكاني، بل أتوقع أن يلعبوا دوراً إيجابياً فيها"، منوهاً أن إجراء التعداد السكاني لا يحتاج إلى خبرات دولية، ويمكن تنفيذه بخبرات محلية لأن السودان له باع طويل في كل ما يتعلّق بقضايا الحكم والتنمية والديمقراطية".
الدوائر الانتخابية
في سياق متصل، يوضح أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم الدكتور محمد خليفة صديق أن "التعداد السكاني هو تصوير رقمي لأحوال المواطنين المنتمين لبلد ما، في حيّز زمني معين، يراعي توزيع السكان الجغرافي وتركيبتهم النوعية وفئاتهم العمرية ومستوياتهم التعليمية والأنماط المعيشية والأنشطة الاقتصادية التي يمارسونها والمناسيب التنموية والخدمية في مناطق سكنهم وعملهم، وربما انتماءهم الديني وطبيعة التغيرات التي طرأت على واقعهم الديمغرافي بفعل العوامل الطبيعية أو البشرية، وبذا يُعتبر التعداد السكاني عملية مهمة للغاية في دفع مسار التنمية المتوازنة والتخطيط العمراني إلى أي قطر، حيث يوصي الخبراء بأن يُنجز كل عشر سنوات، ووفق معايير قياسية تناسب حاجات كل دولة".
ويضيف "لقد مرت حوالى 12 سنة على آخر تعداد سكاني نُفّذ في السودان، الذي تبدّلت بعده حال الوطن بانفصال جنوب السودان، ويُعتبر التعداد الذي أنُجز في 2008، من أهم التعدادات السكانية وأكثرها تعقيداً، لأنه اتّصل بحزمة من القضايا الشائكة والمختلف عليها سياسياً، مثل مردود العائد النفطي على المشهد الاقتصادي وإجراء استفتاء جنوب السودان الذي يقرّر بموجبه وضع الجنوب في دولة السودان الموحدة، أو انفصاله عنها، على الرغم من أنه لم يكن تعداداً شاملاً بسبب الحرب في جنوب البلاد والمناطق الثلاث.
ويوضح محمد خليفة "أما التعداد المزمع تنفيذه بنهاية المرحلة الانتقالية الحالية، فتنبع أهميته من أنه ستكون له الكلمة النهاية في قضايا مهمة، مثل قضية تقسيم الدوائر الانتخابية وتحديد معايير تقسيم الثروة بين أقاليم السودان المختلفة وتوزيع الخدمات طبقاً للكثافة السكانية ومعرفة طبيعة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على التركيبة الديمغرافية في البلاد بسبب النزاعات الأهلية والظروف الطبيعية، والهجرة إلى الخارج والنزوح من الريف إلى المدينة، حيث ترك كثيرون مزارعهم وقراهم وتكدّسوا في مدن أخرى غير منتجين لا لشيء إلّا البقاء على قيد الحياة".
الانتماء الديني
ويتابع أستاذ العلوم السياسية "تعيش البلاد واقعاً جديداً أفضت إليه ثورة ديسمبر والوثيقة الدستورية التي تحكم المرحلة الانتقالية والتي تتطلّب مهماتها إجراء عمليات تعداد سكاني، ومن ثم تنزيل بيانات التعداد إلى أرض الواقع بما يتماشى ومستجدات الحاجات الأساسية للمواطنين ولمناطقهم وتحديد مؤشرات الوضع السكاني في الولايات بما يسهم في خلق تنمية متوازنة ومكافحة الفقر فيها، بعيداً من الترضيات الآنية الضيقة التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة على السودان".
ويؤكد أن التحوّل الديمقراطي الحثيث الذي تسير البلاد نحوه يحتّم تبني هذا المشروع المهم لدوره في التوزيع العادل للثروة والسلطة بشكل متوازن وتوزيع الخدمات المتعلّقة بالصحة والتعليم وتحديد حاجات المناطق الفعلية من تعليم وصحة ومياه وكهرباء، وغيرها من الخدمات الأساسية بتفاصيلها المعروفة، من محو أمية إلى عدد طلاب الفاقد التربوي وعدد المدارس ودرجات الاستيعاب الفعلي لهذه المدارس، إضافةً إلى إحصاء عدد المستشفيات والمراكز الصحية وأنواع الأمراض المستوطنة ومناطقها في الرقعة الجغرافية المحددة وأنواع الوبائيات الموسمية، إلى آخرها من البيانات.
ويرى محمد خليفة انه "من المهم في هذا التعداد تحديد الانتماء الديني على عكس ما حدث في تعداد 2008، لمعرفة حجم وجود المسلمين والمسيحيين في جبال النوبة والخرطوم وشمال السودان، والأديان التقليدية في جنوب النيل الأزرق لأهمية ذلك في مسألة علاقة الدين بالدولة وغيرها، ولا بد من توعية ضخمة جداً بالوسائط المتاحة كافة للأمية المتفشية وللعادات التي تخاف من العين والحسد، فلا تعطي إحصاءات دقيقة".
العدالة الاجتماعية
من جهة ثانية، يقول القيادي في قوى الحرية والتغيير بدوي موسى إن "عملية التعداد السكاني تظلّ إحدى الأضلع الرئيسة لإنجاح العملية الانتخابية والتنموية بالشكل المطلوب، فضلاً عمّا تلعبه من دور عظيم في مستقبل تطوّر البلاد وتقدّمها، كونها تساعد في الترتيبات والعمليات السياسية التي يمكنها أن تحقّق التوافق والانسجام في تقريب وجهات النظر، وما تحقّقه من سلام ورخاء، بالتالي الاستقرار المنشود".
ويضيف "صحيح أن السودان يمرّ الآن بتغييرات جذرية ويواجه تحدّيات كبيرة، نتيجة لما حدث من ثورة شعبية أطاحت بنظام البشير، وتزامن ذلك مع بروز جيل جديد من الشباب كقوة سياسية لا يُستهان بها في أي تغيير مقبل، فضلاً عمّا خلّفته النزاعات والحروب من مشكلات كقضايا النزوح واللاجئين، وهي قضايا ملحّة تحتاج إلى مواءمة ليتم استيعاب كل هذه الأطياف والجماعات وفق برنامج للعدالة الاجتماعية يسهم في بناء وطن معافى".
ويرى موسى أن "السودان بلد متنوع جغرافياً وثقافياً وإثنياً، وهو ليس أمراً سلبياً بشكل متأصل، بل يمكن أن يكون إيجابياً، وقد قاد إخفاق الحكومات المتعاقبة في إدارة التنوع في البلاد إلى غياب التوافق السياسي. وفي الوقت ذاته، نجد أن جميع المجتمعات في كل أنحاء السودان نادت في لحظات مختلفة بإيجاد تغييرات في ترتيبات الحكم لمراعاة هذا التنوع بشكل أفضل، ومن بين ذلك مسألة التعداد السكاني التي تحتاج إلى دراسات تستوعب وتأخذ في الاعتبار الحقوق الثقافية واللغوية".
التفاوت التنموي
ويوضح القيادي في قوى الحرية والتغيير "لنضمن تعداداً سكانياً حقيقياً يتكوّن من قاعدة معلومات دقيقة، لا بد من معالجة عددٍ من القضايا والمشكلات قبل بدء هذه العملية، ومن أهمها مواءمة مختلف وجهات النظر السياسية بشكل عادل ومتوازن وهي مهمة أساسية للحكم، بغية ضمان تمثيل الأقليات في عمليات صنع القرار سعياً للإجماع، ومراعاة ما يكفله الدستور من حقوق متساوية للنساء، ومعالجة قضايا التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي المرتبط بالموارد في أطراف السودان، باعتباره أصبح عاملاً رئيساً وراء النزاعات في البلاد، بالتالي لا بد من استيعاب وجهة نظر المواطنين الذين يعيشون في هذه المناطق، فضلاً عن معالجة التفاوتات التنموية سواء كان أساسها جغرافياً أو مجتمعياً من خلال تخصيص الثروة للمناطق الأكثر تأثراً لرفع مستوى الخدمات فيها".
"كذلك لا بد من معالجة المشكلات التي قد تواجه القائمين بالتعداد في مناطق النزاعات لضمان عدم مقاطعة سكانها لهذه العملية، إضافةً إلى اختيار التوقيت المناسب لإجراء التعداد بحيث لا يتزامن مع موسم الخريف مِمّا يحدّ مشاركة كثيرين من المواطنين في المواقع النائية، مع أهمية تعميق مفهوم ثقافتهم بماهية الإحصاء السكاني".
ويلفت إلى أن "عدم مراعاة مجمل هذه القضايا وأخذها في الاعتبار، سيؤدي إلى مزيد من المشكلات المعقدة، فالتعداد السكاني بشكل عام يجب أن يقوم على أسس علمية مكتملة الأركان لأنه يفترض أن تترتّب عليه كل الخدمات وتوزيع التنمية على المناطق، وليس إقامة الانتخابات العامة فقط. لذلك، لا بد من اتّباع الطرق الحديثة في عملية التعداد السكاني، خصوصاً استخدام نظم المعلومات الجغرافية المكانية والإنترنت، ما يساعد في تحسين نتائجه وسرعة الحصول عليها وكفاءة نوعيتها".