في عام 1895، أراد مواطنو مدينة بريستول الواقعة في جنوب غربي إنجلترا الاحتفاء بآباء المدينة عن طريق إقامة نصب تذكاري، فبحثوا عن فخر تاريخي كبير خاص بهم. وبعد عديدٍ من المداولات استقروا على شخص إدوارد كولستون، وهو تاجر من القرن السابع عشر، كان قد وهب جمعيات خيرية في المدينة أموالاً طائلة بهدف إخراج معوزيها من محنة الفقر، ودائرة الجهل. لكن يبدو أن سكان المدينة اختاروا، وفقاً لمعايير يومنا المستجدة، تكريم الرجل غير المناسب؛ فلقد حقق كولستون ثروته التي تبرع بها من خلال استثماره في "الشركة الملكية الإفريقية" التي اختصت بشحن العبيد من إفريقيا إلى جزر الهند الغربية.
وبعد مرور 125 عاماً على نصبه، وتحديداً في 7 يونيو(حزيران) الجاري، أقدم مواطنون من المدينة نفسها على انتزاع تمثال كولستون من قاعدته، على خلفية الاحتجاجات التي أعقبت مقتل جورج فلويد، الأميركي ذي الأصول الإفريقية، علي يد شرطي أميركي، وشوهد أحد المتظاهرين، وهو يضغط على عنق التمثال بركبته قبل إلقائه في مياه النهر، في محاكاة للوضع الذى تعاملت به الشرطة مع فلويد، وأدى إلى وفاته.
أهداف استراتيجية
ما انفكت التماثيل التي تجسد رموزاً، وشخصيات تاريخية حول العالم، تتصدر خطوط المواجهة الأمامية في أوقات التغيير الاجتماعي، وتتحول إلى أهداف استراتيجية للمتظاهرين الغاضبين بوصفها خزاناً للقيم السياسية، ولما تمثله من انعكاس للطبقات الاجتماعية خلال الأزمان التي نصبت فيها. وقد صبّت التظاهرات المنددة بالعنصرية التي اشتعلت فى عدد من شوارع العالم على خلفية مقتل فلويد، جام غضبها على تماثيل تجسد شخصيات عُرفت بتاريخها المؤيد للتفرقة العنصرية لتتساقط مثل حجارة الدومينو من مدينة إلى أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقد شهدت مدن بلجيكية استهدافات لتماثيل الملك ليوبولد الثاني، الذي يعتبره مؤرخون مسؤولاً عن ارتكابات فظيعة ضد سكان الكونغو زمن الاستعمار. وأثناء التظاهرات اعتلى متظاهرون تمثالاً له، ورفعوا علم جمهورية الكونغو الديمقراطية عليه، مرددين هتافات "قاتل" إشارةً إلى الملك. وحاول محتجون غاضبون التعرض لتمثال يعود لونستون تشرشل في بريطانيا. وطرح عمال في مدينة ديربورن بولاية ميشيغان الأميركية، تمثالاً لأكثر العمداء بقاء في منصبه، أورفيل هوبارد، الذي كان مؤيداً لسياسات الفصل العنصري طوال فترة عمله التي استمرت 35 عاماً. وأزالت سلطات فيلادلفيا، تمثال مفوض الشرطة السابق فرانك ريزو المشهور بعنصريته، بعد أيام من تشويهه من قبل محتجين. وقرر حاكم فرجينيا إزالة تمثال للجنرال روبرت لي، الذى عُرف برفضه المساواة بين البيض والسود، فيما تقرر إزالة تمثال آخر للجنرال من داخل حرم جامعة تكساس. وأطاح محتجون بتمثال جيفرسون ديفيس، رئيس الاتحاد الكونفدرالي المؤيد للعبودية المقام في ريتشموند في ولاية فرجينيا التي كانت عاصمة للاتحاد وقت الحرب.
تقليد قديم
إسقاط هذه التماثيل، وغيرها اليوم، ليس وليد المصادفة. ذلك أن تدمير، أو إسقاط الرموز والنصب التذكارية تقليد يعود إلى قرون مضت. لكن السنوات الماضية سجلت تواتراً سريعاً في عمليات الإسقاط؛ فنهاية حكم حزب البعث في العراق يُرمز إليها في وسائل الإعلام بإسقاط تمثال صدام حسين البرونزي في 9 أبريل (نيسان) 2003. سبق ذلك إسقاط تماثيل القادة السوفيات في أوكرانيا في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2013، ورومانيا في مارس (آذار) 1990، وطاجيكستان في 30 مايو (أيار) 2011، وإثيوبيا في مايو 1991، والمجرفي 23 أكتوبر (تشرين الثاني) 1956. كما أطيح تمثال كريستوفر كولومبوس في فنزويلا في أكتوبر 2004، فيما أطاح طلاب غاضبون في جنوب إفريقيا بتمثال للمستعمر سيسيل جون رودس في أبريل 2015، ومع مطلع الألفية الجديدة قامت "حركة طالبان" الأفغانية في 26 فبراير (شباط) 2001 بنسف تمثال ضخم لبوذا منحوت داخل واجهة أحد جبال باميان.
يقودنا كل ما سبق، وغيره، إلى سؤال يتبادر إلى الأذهان، لماذا يتعرض الثوريون والمحتجون الغاضبون للتماثيل؟
تقيم الدول والشعوب النصب والتماثيل اعتزازاً برموزها، وتخليداً لمواقفهم الوطنية والإنسانية وتضحياتهم، ورغبة منها في إشاعة معانٍ أخلاقية، وسياسية سامية حفلت بها سير هؤلاء على طول محطات حياتهم. وترسيخاً لهذه المعاني كقيم عظيمة في الذاكرة الجمعية للشعوب، يتم وضع تماثيلهم في الشوارع، والساحات العامة كفضاءات بصرية مهمتها تحفيز الفضائل في نفوس الأجيال. عكس ذلك، ترى بعض الأنظمة الشمولية في التماثيل والنصب شكلاً من أشكال الدعاية السلطوية ومعززاً للأساطير التي تنسج حول أصحابها.
بين مؤيد ومعارض
مع شيوع حملة تحطيم التماثيل الحالية، على خلفية مقتل فلويد، انقسمت الآراء بين فريقين. الأول يرى في إزالتها حقاً مشروعاً. إذ لا يجوز الاحتفاظ بتمثال يخلّد شخصاً عنصرياً، لأننا بذلك نسهم في تمجيد قيم الظلم والطغيان، والترويج لثقافته وسياسته. وينتقد أنصار هذا الفريق، تبرير البعض بأن وجود هذه التماثيل إنما هو جزء من تاريخ حقبة زمنية مرّ بها بلد ما، ذلك أن المسألة هنا لا تتعلق بالتاريخ بقدر تعلقها بما تروج له هذه التماثيل من ثقافة هي جزء من موروث عنصري. ويعتقد أنصار إقصاء التماثيل أن هذه النصب تجرح الذاكرة، وأن سقوط النظام العنصري الذي تمثله لا يعني سقوط الأيديولوجيا التي تقف وراءه بحد ذاتها. لبُّ المسألة برأيهم هو كيفية التخلص من الرواسب العنصرية داخل النفوس، وإبقاء هذه النصب إنما يدل على أن هناك من يرغب في ترسيخ وجودها ترويجاً للثقافة العنصرية.
لكن القول بأن تاريخ هذا الرجل، أو ذاك نهائي أمر خاطئ، ويتجاهل حقيقة أن المعايير الثقافية تتغير بمرور الوقت، حسبما يحاجج أنصار الفريق الثاني. إذ سيكون من الحماقة رمي تماثيل كل تلك الشخصيات التي أساءت بأي حال من الأحوال إلى الأخلاق الحديثة. ولو كان الأمر كذلك ينبغي علينا تدمير كل تمثال أثري موضوع في متحف بسبب رمزيته إلى طاغية ما، أو إلى روح شيطانية. بالمحصلة، يقول الفريق الثاني إنه يجب أن يكون للشخصيات العظيمة مكان في الفضاءات العامة، حتى لو امتلكت سجلاً ملطخاً.
ويروج أنصار إبقاء التماثيل العديد من الأمثلة لتوضيح وجهة نظرهم. فقد تسبب أوليفر كرومويل في معاناة رهيبة لسكان إيرلندا، لكن دوره في تطوير الديمقراطية يبرر وجود تمثاله في ساحة البرلمان. سيسيل رودس لم يكن أسوأ إمبريالي فحسب، بل طرد كثيراً من السود من أراضيهم في جنوب إفريقيا، لكنه ترك ثروة ضخمة للأعمال الخيرية، وكان لمنحته السخية لجامعة أكسفورد أثرٌ على إنشاء البعثة الدراسية التي تحمل اسمه. وعلى المقلب الآخر من الأطلسي، تكرم أميركا كثيراً من الشخصيات التي تصادف أنها مالكة للعبيد، مثلما هو حال جورج واشنطن وتوماس جيفرسون اللذين أسهما بشكل رئيس في مسيرة بلادهما.
مع ذلك، فإن الضغط من أجل التغيير يجبر الولايات المتحدة على إعادة تقييم تماثيلها سنة تلو الأخرى. فقد تمت إزالة العديد من نصب القادة الكونفدراليين في السنوات القليلة الماضية، ولا يزال على الكثير منها أن يذهب، بما في ذلك تمثال ناثان بيدفورد فورست، تاجر الرقيق العضو في منظمة "كو كلوكس كلان" الذي يقع تمثال نصفي له في عاصمة الولاية في تينيسي.
تعويض تجار العبيد
يقول توم ستيفنسون، الباحث في التاريخ البريطاني في مقالة كتبها لدى موقع "ميديوم" تعليقاً على إسقاط تمثال كولستون، إن ثمة "سخرية تاريخية في إلقاء تمثاله في النهر، فلقد غرق تماماً كما كان يفعل النخاسون بالعبيد، الذين كان ينقلهم كولستون بسفنه عبر المحيط خلال الرحلات الجهنمية إلى الكاريبي". يضيف ستيفنسون "لقد صُعقت حين علمت أن القرار البريطاني بإلغاء الرق فرض في الواقع أعباء كبيرة على الاقتصاد، وأثقل كاهل دافعي الضرائب. فلقد أنفقت الحكومة البريطانية عام 1833 مبلغ 20 مليون جنيه استرليني لشراء حرية العبيد. وهذا المبلغ، الذي يعادل اليوم نحو 300 مليار جنيه، كان كبيراً لدرجة أن القروض التي حصلت عليها الحكومة لتغطية تكاليفه لم تُسدد بالكامل إلا في عام 2015. والمثير للحيرة حقاً هو أن ثمن الحرية قبضه مُلّاك الرقيق، ولم يستفد منه الأرقاء. بعبارة أخرى، كان دافعو الضرائب في بريطانيا (وأنا منهم)، حتى عام 2015، يسددون أقساط الديون التي تكبدتها الحكومة لتعويض مُلاك الرقيق البريطانيين عن ما يسمى ممتلكاتهم المهدرة".
مع ذلك، يبقى التاريخ مسألة مثيرة للجدل، حسب ستيفنسون، "لكن يمكن له أن يساعدنا على الشفاء، والاعتراف بماضينا المتقلب الذي لم نتصالح معه بعد". للقيام بذلك، يقترح الباحث البريطاني، "أن نعترف بأن كثيراً من الثروات التي نتمتع بها اليوم كانت نتيجة استغلال، وبؤس ملايين الأبرياء. وبغض النظر عن تاريخ نصبها، فإن التماثيل التي نراها اليوم هي مرآة للمجتمع الذي نعيش فيه". وتساءل، هل نتسامح مع فقدان الذاكرة التاريخي الذي نعانيه عندما نحتفظ بهذه التماثيل، أم نتعامل مع القضايا التي تعبر عنها؟ ثم يجيب، ربما يكون إسقاط تمثال كولستون هو الحدث الذي نحتاجه لدفعنا في الاتجاه الصحيح أخيراً لمواجهة ماضينا.
يقترح مثقفون مؤيدون لستيفنسون إنشاء متحف مخصص لتجارة الرقيق في المملكة المتحدة لفتح الباب أمام وعي أكبر بهذا الجزء من التاريخ. ويشيرون إلى أن أولئك الذين يقولون إن إزالة التماثيل يعيد كتابة التاريخ مخطئون. ذلك أن التاريخ موضوع مراجعة دائمة، وهو شيء حي يتنفس ويقول الكثير عنا كمجتمع. ومع ذلك، ليس مهماً فقط أن يتم إسقاط تماثيل غير المستحقين، ولكن أيضاً كيفية حدوث ذلك. قد يكون أولئك الذين أسقطوا كولستون محقون، لكنهم مخطئون في الإطاحة به بأنفسهم. يجب إزالة التماثيل تماماً كما تم وضعها، من خلال التوافق الاجتماعي. حتى لو ترددت السلطات في ذلك لسنوات فهذا لا يشكل عذراً للغوغاء لتولي المسؤولية.
مع ذلك، ثمة إجماع على أنه لا ينبغي إعادة جل التماثيل التي أسقطت. فتمثال كولستون على سبيل المثال، تم إخراجه الآن من النهر، ويخطط مجلس مدينة بريستول لوضعه في متحف، وهو حل منطقي. ثمة حلول أخرى أكثر إبداعاً ابتكرتها بلدان ذات ماضٍ أليم؛ فلقد وضعت المجر مجموعتها من تماثيل الحقبة الشيوعية في "حديقة ميمنتو التذكارية" لتصبح معلماً سياحياً يثير استغراب زائريها جراء كثرتها وضخامتها. أما مومباي الهندية، فأرسلت بطريقة ساخرة تمثال الملك إدوارد السابع، وهو يعتلي صهوة جواده إلى.. حديقة الحيوانات في بايكولا.