هي بالتأكيد رواية مميزة في حدّ ذاتها وما كانت في حاجة إلى أن تصبح ظاهرة لكي تحوز المكانة التي تستحقّها بين القرّاء الفرنسيين. وليس أدلّ على تميّزها من كونها: أوّلاً، فازت بجائزة "غونكور" أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا؛ وثانياً، تحوّلت إلى فيلم يُعتبر من الأكثر نجاحاً في فرنسا؛ وثالثاً، نالت تصويت قرّاء صحيفة "لوموند" الفرنسية لها بوصفها السابعة عشر بين أفضل مئة رواية قرأوها في حياتهم. ولئن كان البعدان الأول والثاني يعودان عقوداً إلى الوراء ويمكن اعتبارهما متّصلَيْن بالجانب "الفضائحي" لتلك الرواية، فإنّ البعد الثالث (تصويت قراء "لوموند") يعود إلى أشهر قليلة فقط، ما يؤكد تميّز هذه الرواية. ومع هذا، يمكننا أن نقول إن كون "الحياة أمامك" رواية كبيرة لا علاقة له بكونها ظاهرة وبالمكانة، السلبية بالأحرى التي تحتلّها في تاريخ الحياة الثقافية الفرنسية. ولنوضخ هذا على الفور، ولكن بعد أن نتحدث عن الرواية نفسها في بعدها الأدبي الخالص.
المراهق المسلم والعجوز اليهودية
حكاية "الحياة أمامك" هي حكاية الفتى العربي موم والكهلة اليهودية روزا. وهذه الأخيرة التي مرّت خلال صباها بمعسكرات الاعتقال النازية، تعيش الآن على أمجاد "النضالات" التي خاضتها في الحيّ الموبوء الباريسي الذي تقيم فيه لصالح البائسات من فتيات الهوى. إنّها تعيش وحيدة في اقترابها من سن الشيخوخة، تتولّى إدارة مأوى تلتقط فيه اليتامى الذين تخلّى عنهم أهلهم ولا يدرون مَن يعينهم، فتتولّى هي ذلك، حاميةً إيّاهم من غائلة الجوع والتشرّد، كما من تعسّف الحماية الاجتماعية الرسمية ومن القوّادين الذين قد يسرعون بدورهم إلى التقاطهم. وهي تفعل ذلك من جديد ذات يوم حين تعثر على مراهق مسلم في الرابعة عشر، لكنه يبدو لصغره وخجله في العاشرة. تولع روزا بالفتى وتعامله بغير ما تعامل أيّاً من محميّيها الآخرين.
وفي الحكاية التي يرويها الفتى مومو نفسه لنا نحن القرّاء، يقول لنا الفتى/ الراوي كيف أنه وهو المحروم من أمّ لم يعرفها منذ الطفولة، سرعان ما يجعل من روزا أمّاً بديلة له ويقاسمها العيش والعاطفة والتشوّق إلى الحياة التي لا تزال مطروحة أمامه. ومومو الذي يبدأ وعيه يتفتّح على الحياة برفقة روزا، يعرف بالطبع أنها كانت إلى سنوات قريبة، فتاة هوى "تدافع عن نفسها بجسدها" بحسب تعبيره، لا يعير هذا الواقع أدنى اهتمام. فروزا بكل ما تمثّله هي الأم الوحيدة التي بقيت له في حياتها وكما تقوم هي برعايته، سيتولّى هو رعايتها في أيامها الأخيرة هي التي تعيش مرضاً وموتاً بطيئَيْن. بالتالي سيكون بالنسبة إليها الابن الوحيد الذي لم تنجبه وسيرافقها حتى موتها ليكون الوحيد الذي سيبقى يبكيها عند قبرها.
يوم بكى القراء الفرنسيون
هذه هي باختصار حكاية روزا ومومو التي صاغ منها الكتاب رواية أبكت كثراً من الفرنسيين ودفعتهم إلى تفسيرات اجتماعية وإنسانية وسياسية عدّة حين كانت على شكل رواية فقط، ثم حين حُوّلت فيلماً سينمائياً عام 1977 من بطولة سيمون سينيوريه التي قدّمت في الفيلم الذي حمل عنوان الرواية ذاته، واحداً من أقوى أدوارها على الشاشة. ونعرف أن الفيلم الذي حقّق نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيرَيْن قد أسهم في شعبية الرواية، ولكن من دون أن يؤدي إلى المزيد من طرح الأسئلة من حول كاتب الرواية نفسه؛ فالمعروف أن الجمهور العريض حين يحقّق نجاحاً ما لعمل كان في الأصل عملاً أدبياً، لا يهتمّ كثيراً بالبحث عن الكاتب نفسه.
وستكون تلك هي الحال بالنسبة إلى ما نرويه هنا، ولذا ننتقل عائدين إلى الجانب الآخر من الحكاية على اعتبار أن الوقائع التاريخية هي التي ستفرض مثل تلك العودة إلى حقيقة كاتبها. ففي السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، بدأت تتجمّع في فرنسا تلك الفضيحة التي لن تُنسى أبداً. ففي ذلك اليوم، أعلن حكّام جائزة "غونكور" الأدبية عن اسم الفائز بجائزتهم الأرفع لذلك العام: إميل آجار عن روايته "الحياة أمامك". صحيح أن الاسم مجهول، لكن الرواية كانت قد قُرئت على نطاق واسع وساد التساؤل عَمَّن يكون الكاتب إنّما من دون إلحاح. ولكن اليوم وقد فاز بـ"الغونكور"، بات لا بدّ له من الظهور. فلا يجوز أن يكون الفائز نكرة لا صورة له ولا تاريخ. لا يمكنه أن يبقى فطراً صحراوياً. بل لا بدّ من ظهوره الآن ولو لتسلّم الجائزة. وهكذا عاشت فرنسا الأدبية، وفي مثل هذه المناسبات، تتحوّل فرنسا كلها إلى فرنسا أدبية كما نعرف، عاشت زمناً من الترقّب: من هو إميل آجار المبدع هذا؟ هل هو حقاً كاتب جديد؟ قديم يوقّع باسم جديد؟ هل هو شاب؟ عجوز؟ امرأة؟ أرمني؟ يهودي؟ أهو أراغون؟ ريمون كوينو؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الانتصار الأخير
في اليوم التالي، ظهر شاب غريب الشكل والملامح وتسلّم الجائزة وسط خيبة أمل عامة باعتبار أن لا شكل كاتب له ولا حديثه يتميّز بذكاء. ثم أنه أفصح عن اسمه الحقيقي الذي تبيّن أنه لا يوحي بشيء: بابلو بابلوفيتش... إذاً، على الرغم من الاهتمام المتواصل للصحافة، سرعان ما خبت الحكاية ونسيها الناس... ولكن لخمس سنوات فقط.
ففي شهر ديسمبر (كانون الأول) 1980، انتحر الكاتب الفرنسي المرموق رومان غاري بعد أربعة عشر شهراً من انتحار زوجته النجمة جين سيبرغ، بطلة "على آخر رمق" لجان لوك غودار بين روائع سينمائية أخرى. وسرعان ما تبيّن أن الزوجين كانا أصلاً قد اتفقا على الانتحار واحداً بعد الآخر. لماذا؟ لم يكن التكهّن سهلاً. ثم ما علاقة انتحار رومان غاري، صاحب عددٍ كبيرٍ من الروايات المميزة، مثل "وعد الفجر" (العاشرة في استفتاء "لوموند")، و"جذور السماء" التي كان الأميركي جون هستون حوّلها فيلماً مميزاً من بطولة إيرول فلين (المرتبة السبعين في الاستفتاء عينه و"الغونكور" عام 1956)، ما علاقته بحكايتنا هنا؟ علاقة وثيقة بالتأكيد. فهي لبّ الحكاية على أية حال: ففي البرنامج التلفزيوني "أبوستروف" الذي يبقى على مرّ الأزمان أشهر برنامج أدبي في التاريخ التلفزيوني الفرنسي، كشف المدعو بافلوفيتش الذي لم يكن في حقيقة الأمر سوى ابن أخت رومان غاري، عن أن هذا الأخير هو نفسه إميل آجار!
وذُهل الفرنسيون وقد تذكّروا أن من قوانين "الغونكور" ألّا يفوز بها أي كاتب ومهما كان شأنه سوى مرة واحدة. وهكذا يكون غاري قد ضحك على ذقونهم وسخر منهم ليصبح، حتى انتحاره وانكشاف "مزحته السمجة"، الكاتب الوحيد في التاريخ الذي فاز بـ"الغونكور" مرتين و... عن جدارة. طبعاً لا أهمية هنا لما سيحصل بعد ذلك من إعادة تصحيح للأمور واستعادة محكّمي "الغونكور" كرامتهم المهدورة، وافتقاد النقاد ودارسي لغة الكتّاب إلى المصداقية لعجزهم عن تمييز لغة ونحو وأسلوب واحد من كبار كتّابهم. فالمهم في الأمر أنّ رومان غاري رفع قفّاز التحدّي وحقّق قبل انتحاره ذلك الانتصار الأكبر في حياته!
بقي أن نتوقّف هنا ولو قليلاً عند رومان غاري نفسه وقد استعاد، بعد الموت، روايته الكبرى هذه. فغاري الذي انتحر عام 1980 كما أشرنا، وُلد عام 1914 في لتوانيا البلطيقية لأسرة يهودية من أصول روسية سرعان ما انتقلت إلى فرنسا، حيث عاش وبدأ الكتابة باكراً لتشكّل كل رواية من رواياته حدثاً أدبياً ومنها "تربية أوروبية" المنشورة باكراً عام 1945، ثم نجده منذ أواسط السبعينيات، ينشر باسمه المستعار على التوالي أربع روايات، كان من شأن كلّ منها أن تكون حدثاً أدبياً كبيراً، لا سيما منها "الحياة أمامك" التي كانت موضوعنا هنا وكانت أكثر من مجرد حدث واحد بالطبع!