هو حدثٌ يُعدُّ على نطاق واسع الخطيئة الأولى التي ارتكبها الغرب في سياسته المتعلقة بالشرق الأوسط خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو انقلابٌ سحق طموحات الشعب الديمقراطية وأدّى في النهاية إلى الصعود الكارثي للقومية العسكرية والتشدّد الإسلامي الذي يرسم ملامح المنطقة اليوم.
منذ نحو 67 عاماً، أطيحت حكومة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق القومية ذات الشعبيّة بمساعدة الجواسيس البريطانيين والأميركيين الذين أرادوا إعادة تنصيب الشاه محمد رضا بهلوي في موقع الزعيم المطلق لإيران. وبعد مرور 25 عاماً على الانقلاب، في العام 1979، وصل حكمه هو الآخر إلى نهايته على يد رجال الدين الإسلاميين والناشطين الذين ألهموا بروز حركات أخرى في أرجاء المنطقة كافة.
وعلى مرّ العقود اللاحقة، بدأت تحيط بالحدث هالة أسطورية، ومن المؤامرة هذه تناسلت كل ما تبعها من نظريات المؤامرة. طبعاً، كما تقول شعوب الشرق الأوسط، لا شكّ في أنّ أجهزة الاستخبارات الغربية تقف وراء كل الأحداث بدءاً بصعود تنظيم "القاعدة" و"الدولة الإسلامية"، ووصولاً إلى تقدير قيمة العملات المحليّة. والدليل على ذلك النظر إلى طريقة إطاحتها الحكومة في إيران بعد أن حاولت تأميم قطاع النفط في أوائل خمسينيات القرن الماضي وتصدّت بذلك للنفوذ الإمبريالي البريطاني.
لكن خلال السنوات الأخيرة، بعد نظر المؤرّخين حول العالم ملياً في وثائق من السجلّات الرسمية رفعت عنها السرية، أعادوا تقييم أحداث تلك المرحلة أكثر من مرّة. واعتبر بعضهم أن مصدّق كان على وشك الرحيل بالفعل، وأنّ تحالفاً محلّياً شكّله مناصرو الشاه من بلطجية وأصحاب مصالح تجارية ورجال دين محافظين معارضين لسياساته اليسارية الميول كان على وشك اقتلاعه من منصبه. بينما استخلصت مجموعة من التحليلات الأخرى في المقابل أنّ الانقلاب كان حادثة سيئة التخطيط أوشكت على الفشل، وهو أقرب إلى أفلام جون كليس الكوميدية من روايات التجسّس التي كتبها جون لو كاريه، وليس عملاً بطولياً نفّذه جواسيس بارعون.
ويميل تحليل الموّرخَين اللذَين يقفان وراء الفيلم الوثائقي "الملكة والانقلاب"، التي بثّته القناة الرابعة يوم الأحد في 15 الجاري، نحو الرأي الثاني، إذ يعتبران أنّ نجاح الانقلاب الذي خطّط له الجواسيس البريطانيون في العام 1951 أثناء سعيهم إلى بقاء نفط إيران تحت سيطرتهم، يعود إلى سلسلة من الأخطاء المضحكة أكثر منه إلى عملية أعدت على أمثل وجه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتظهر وثائق يُكشف عنها للمرة الأولى وجدها المؤرّخان روري كورماك وريتشارد آلدريتش طريقة استغلال اسم الملكة إليزابيث في شبابها خلال لحظة حاسمة "من أجل المساهمة في إطاحة الديمقراطية في إيران"، كما يقول الوثائقي.
وخلال أشهر الأزمة الطويلة ومدة الإعداد التي سبقت وقوع الانقلاب في أغسطس (آب) 1953، كان الشاه الشاب، الذي حماه الغرب وتحديداً لندن وواشنطن أصحاب الخطط العالمية للتصدي للاتحاد السوفياتي، يخطّط للخروج من البلاد إلى المنفى خوفاً من الاضطرابات التي تعتمل داخل البلاد.
وعثر آلدريتش وكورماك على وثائق تكشف تلقّي الولايات المتحدة في لحظة مفصلية رسالةً موجّهةً إلى الشاه من وزير الخارجية البريطاني آنذاك آنتوني إيدن بدت وكأنها تلمّح إلى أنّ الملكة إليزابيث شخصياً تقوم بتدخّلٍ نادرٍ في السياسة الخارجية كي تحثّه على البقاء في منصبه. وبسبب علمه بمدى سعي الشاه إلى إقامة تحالف رسمي مع النظام الملكي البريطاني، نقل السفير الأميركي في طهران هذه الرسالة إلى البلاط الملكي.
لكن تبيّن لاحقاً أنّ الرسالة محرّفة وأنّ إيدن نفسه يحثّ الشاه على البقاء داخل إيران، من على متن السفينة العابرة للمحيط المُسمّاة كوين إليزابيث (الملكة إليزابيث).
أدرك الأميركيون أنهم ارتكبوا خطأً لكنهم قرروا أن يخفوا هذا الخطأ عن البريطانيين والإيرانيين على حدٍ سواء. و"لم يرغبوا في أن يعلم الشاه أنّه تلقّى معلومات خاطئة فعلياً أو حتّى أنه تعرّض لخديعة غير مقصودة"، كما يقول آلدريتش، أستاذ الأمن الدولي في جامعة وورويك، في الوثائقي.
ومنح قرار الشاه بعدم سلوك طريق المنفى الوقت لعملاء الاستخبارات الغربيين من جهاز الاستخبارات البريطاني ( MI6) ولكيرميت روزفلت من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كي يعدوا خطّتهم. وأطلقت المملكة المتحدة اسم "عملية بوتس" Operation Boots على خطتها القاضية بالإطاحة بمصدّق واستبداله بنظام استبدادي يقوده الشاه. فيما سمّى الأميركيون خطّتهم "عملية أجاكس".
وبعد مرور ستة أشهر، خُلع مصدّق من منصبه فيما سيطرت الجماهير الغوغائية المناصرة للشاه على الشوارع وخنق الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الاقتصاد.
وقال كورماك، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نوتينغهام خلال مقابلة هاتفية "أظّننا وقعنا على اكتشاف مهمّ يضع الملكة في المشهد. لو هرب الشاه في ذلك الوقت، لم يكن جهاز الاستخبارات البريطاني ليُخطّط للانقلاب".
وبعد عودته إلى السلطة، أرسى الشاه بعد أن رجحت كفته حكماً قائماً على الرعب استمرّ 25 عاماً. وزُجّ باليساريين والليبراليين والإسلاميين معاً داخل غرف التعذيب فيما بدّد العاهل الذي بالغ في البذخ ثروة الأمّة من النفط على أنظمة الأسلحة الأميركية الباهظة الثمن. وانتهى حكمه في نهاية المطاف من طريق إحدى أكثر الثورات كارثية في تاريخ العالم، التي أدّت إلى ولادة أكثر نظام يجاهر بعدائه للغرب على وجه الأرض.
من المهمّ وضع الأحداث المحيطة بالانقلاب وتبعاته في نصابها. ففي العام 1953، كانت إيران ديمقراطية دستورية متعثرة، أمّا مصدّق، أكثر سياسيي بلاده شعبية، فقد سمّاه الشاه وانتخبه برلمان مُنتَخب ديمقراطياً في العام 1951، وربّما كانت البلاد لتتخبّط في مسيرتها نحو الديمقراطية بغض النظر عن خلع مصدّق.
ولا يعود سبب نموّ الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط إلى الثورة الإيرانية، فقد وقعت قبلها أحداث أخرى في المنطقة، كما لعبت هزائم الزعماء القوميين العرب في العام 1967 أمام إسرائيل دوراً أكبر في تنامي التطرّف الديني.
وما تظهره الوقائع التي كُشف عنها هو مدى محالفة الحظ البريطانيين والأميركيين. فالتستر على الحقائق الأساسية وراء نجاحهم بالمصادفة في إيران أطلق يدهم في مواصلة السعي إلى زعزعة البلدان طوال عقود بعد ذلك.
وفي السنوات التي تلت الانقلاب، بعدما أخذته نشوة الروايات المحرفة عن نجاحاته الخاصة في إيران، لجأ جهاز الاستخبارات البريطاني MI6 إلى الخديعة والتحايل من أجل محاولة الإطاحة بأنظمة سوريا ومصر والسعودية واليمن.
وقال كورماك المتخصص في تاريخ أجهزة الاستخبارات "لم تؤيّد وزارة الخارجية آنذاك فعلياً العمليات السريّة، بل كانت تحاول أن تسيطر على الجهاز هذا. عندما نُفّذت هذه العملية، دُعي كيرميت روزفلت [ابن الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت] إلى لندن للمشاركة في جولة للاحتفال بالنصر. وأقنعت رواياته وزارة الخارجية أن تسمح لجهاز MI6 بتنفيذ المزيد من العمليات".
الملكة والانقلاب عُرض على شاشة القناة الرابعة يوم الأحد 14 يونيو (حزيران) في تمام الساعة التاسعة مساء.
© The Independent