تتعدد أبعاد الأزمة الليبية وأسئلتها الصعبة، خصوصاً من ناحية زاوية الالتباس واختلاط المفاهيم المحيطة بالمواقف الدولية تجاه هذه الأزمة منذ بدايتها وبشكل خاص منذ اتفاق الصخيرات في ديسمبر (كانون الأول) 2015.
ويعد آخر مظاهر الالتباس وخلط الأوراق هو تباين المواقف تجاه "إعلان القاهرة" بشأن تسوية الأزمة، والذي دعمته أغلب دول العالم، عدا تركيا وحكومة "الوفاق" في رفض متوقع ومنطقي تحت وهم إمكانية الحسم العسكري، وهو حسم يبدو متعسراً حتى الآن حول سِرت التي تُعد على قدر كبير من الأهمية الاستراتيجية. وعلى هامش هذا تأتي بعض مواقف الأطراف الكبرى الغامضة التي تحتاج إلى تفسيرات كونها ستلقي الضوء على كثير من الالتباس المحيط بالأزمة.
يأتي على رأس هذه المواقف الدور الأميركي، الذي أدهش البعض مع أنه لا ينفصل عن جملة ديناميات وطبيعة السياسة الأميركية الراهنة، فعندما أطلق الجيش الليبي حملته تجاه العاصمة طرابلس العام الماضي أجرى ترمب اتصالاً هاتفياً بالمشير خليفة حفتر، اعتبرها البعض آنذاك بمثابة تأييد أميركي واضح للجيش الليبي في حملته، وقيل أيضاً إن هذا تم بناء على وساطة مصرية إماراتية. لكن الجيش الليبي لم يستطع حسم المعركة، وزادت التقارير عن مزيد من الدعم الروسي، بل تواتر بشكل مؤكد أن ميليشيا "فاغنر" الروسية تشارك في العمليات.
ومع زيادة الضغوط على "الوفاق" وفي الوقت نفسه تزايد الشعور التركي بالعزلة في موضوع غاز شرق المتوسط، جاءت الاتفاقية التركية مع فايز السراج، ومع بطء قدرة الجيش الليبي على الحسم، أعطى هذا فرصة لتركيا لحشد أسلحة وقوات تركية وعناصر ميليشيات من سوريا إلى ليبيا لتتغير الموازين العسكرية، خصوصاً مع تغيُرٍ في موقف واشنطن لصالح أسباب تجب موقفها من الإرهاب وحتى من علاقاتها الطيبة مع مصر والإمارات وهي حرمان روسيا من تحقيق نصر استراتيجي في ليبيا. ويعزّز من هذا استمرار وجود دوائر أميركية تحبذ وجود عناصر الإسلام السياسي كأدوات لتنفيذ المصالح الأميركية وإرهاق المنطقة، والشاهد على ذلك تذبذب هذه السياسة الأميركية تجاه قطر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي كل الأحوال لم تعد هناك فقط سياسات علنية وأخرى أميركية سرية متناقضة، بل أيضاً سياسات أميركية علنية متناقضة بين بعضها البعض وتحكمها اعتبارات عديدة، من ثم لم يكن غريباً أن تصدر بيانات متضاربة بعد اتصالين للرئيس الأميركي دونالد ترمب مع كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي أردوغان، لتخرج تصريحات الخارجية الأميركية لتزيل هذا اللبس المفهوم بطريقة دبلوماسية، من أن واشنطن ترحب بـ"إعلان القاهرة" لكنها تفضل أن يكون المسار السلمي عن طريق الأمم المتحدة.
وفي جميع الأحوال قد يصبح أسهل طريق لوصف السياسة الأميركية الراهنة هو أنه لم يعد لديها تصور واضح لكيفية الإمساك بخيوط أي أزمة، كما أنها ربما لا تريد، وأصبحت تشعر أن عليها أن تركز في إدارة معركتها الرئيسة ضد الصين، وأن تتعامل مع تعقيدات علاقتها بروسيا ما بين تيار كان ترمب يمثله ويميل إلى تحسين العلاقات معها والتركيز على الصين في مواجهة مؤسسات الدولة التي اعتادت النظر إلى موسكو كالعدو الاستراتيجي.
وفي كل هذا تدير واشنطن سياستها في إطار رد الفعل بأكثر من الفعل، ومن هنا تشكل تركيا فرصة أداة جيدة لها لتقويض أو تعويق وإرهاق روسيا، من منطلق هذه الأبعاد السابقة، حتى لو كان هذا مصدر عدم ارتياح حلفائها الأوروبيين التقليديين، وفي جميع الأحوال هي تعتبر خلط الأوراق والفوضى حلاً في المرحلة الراهنة لأزمة سياستها الخارجية الأقل تماسكاً عن ذي قبل.
ومن السهل كذلك تفسير المواقف الأوروبية، فإيطاليا على سبيل المثال التي أثارت الكثير من الضجة في شهور سابقة ضد الدور الفرنسي في ليبيا، وتصرف أعلامها وبعض ساستها وعلى رأسهم وزير الخارجية وكأن هناك تنافساً استعمارياً أوروبياً تقليدياً بين البلدين، لم تكن قراءتها دقيقة لسياستها في ليبيا منذ البداية، فقد لعبت دوراً خطيراً في السنوات الأولى بعد إطاحة القذافي لدعم ممثلي التيار الديني المتشدد تحت وهم مخاوفها من تحييد مخاطر التطرف والهجرة غير المشروعة، وكذا قلقاً من المكانة المصرية في ليبيا، وأن تصبح خصماً من نفوذها الوهمي المستقبلي.
وكان أبرز نموذج لهذا دعوتها للسيد نوري أبو سهمين رئيس البرلمان الليبي المنتهية ولايته في أوائل 2014 إلى مؤتمرها الدولي، رغم مخالفة هذا للقواعد الدولية وما يمثله من إحراج لرئيس الوزراء علي زيدان، ما أسفر عن تقوية جناح أبو سهمين وتمكنه من مواصلة الضغوط، حتى تم في جلسة غير قانونية للبرلمان المنتهية صلاحياته آنذاك الإطاحة بزيدان بعد خروج النواب الذين رفضوا حرمانه من الثقة، وانتظر ممثلو الإخوان خروجهم من المبنى للانعقاد مرة أخرى رغم عدم جواز هذا في أي مجلس برلماني في العالم، أي في اليوم نفسه وبعد مغادرة الأغلبية للإطاحة بزيدان الذي هرب بعدها لفترة خارج البلاد.
وبعدها واصلت إيطاليا دعمها للتيار الإسلامي وترددت في دعم مجلس النواب المنتخب 2014 بعد اتضاح العداء بينه وبين تيارات التشدد الديني، ولعبت دوراً بارزاً في دعم جهود المبعوث الأممي برناردينو ليون، حتى عقد "اتفاق الصخيرات" عام 2015 وتشكيل حكومة الوفاق، واستمرت لفترة ترفض التعامل مع حفتر وواصلت دعم الوفاق، ولم تبدأ تغيير ذلك تدريجياً والانفتاح على حفتر إلا في إطار صراعها الوهمي مع فرنسا، حيث تحولت من صراع ضمني مع مصر إلى آخر علني مع فرنسا عندما بدأت دعم الجيش الليبي.
وكان المضحك استخدام مصطلحات شبيهه بصراع البلدين على ليبيا في بداية القرن العشرين، ثم اكتشفت أنها كانت تعمل لخدمة المشروع التركي العثماني وليس مصالحها، وهو ما يفسر تحولات الموقف الإيطالي البطيئة الأخيرة للضغط على واشنطن لكي تضغط الأخيرة على تركيا.
وفي الواقع فإن النموذج الإيطالي يمكن وصفه بأنه نموذج التخبط والحسابات الخاطئة، عندما يشارك طرف ما - في تسليم آخرين النفوذ والمكانة في قضية ما - وهو تحت انطباع أنه يحرّك سياسته لتحقيق مصالحه الذاتية الإيطالية في هذه القضية وعندما يتنبه يكون الآوان قد فات.
أما الموقفان الفرنسي والألماني فأكثر بساطة واتساقاً مع مصالحهما، ففي حالة فرنسا واصلت دعمها للمبادرة المصرية ولا تزال تدعم الجيش الليبي، لكنها فيما يبدو تقدر حدود دعمها ولا تريد الاستثمار الكبير في هذا الدعم في نظرة واقعية لحدود قدراتها كلاعب دولي في هذه المرحلة، ومن هنا ستواصل محاولة التأثير في الموقف الأميركي للجم التوسع التركي الذي أصبح يشكل خطراً استراتيجياً بالنسبة إليها الآن، وأظن أنها تدرك أن ترسيخ ولاية إسلامية في ليبيا أو جزء منها سيشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين ولاستقرار حوض المتوسط كله، كما سيهدد مكانتها في الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، ولهذا من المتوقع أن تزداد وتيرة معارضتها للتدخل التركي في ليبيا، وهي اعتبارات تتفهمها ألمانيا وتشارك الدول الأوروبية الأخرى مخاوفها، لكنها تفضل أن تكون مبادرتها أي مسار برلين عنوان العملية السياسية، وتستند في هذا إلى مساحة قبول دولي، وتبني على هذا لدور دولي يبدو أن واشنطن تتفهمه أو تقبله، فضلاً عن أنه يستند إلى اعتبارات موضوعية كونها ليست طرفاً في مجريات الصراع، وذلك على الرغم من أن المبادرة المصرية أكثر شمولاً من إعلان برلين الذي لم يحقق شيئاً في السابق، ومن الصعب أن ينتج شيئاً من دون مخاطبة القضايا الرئيسة للأزمة، وأن يملك أدوات لتحقيق ذلك، وهي عموماً مشكلة كل المبادرات المطروحة في ظل صراع يكتسب أبعاداً استراتيجية وملامح المباراة الصفرية.
خلاصة الأمر أن مراجعة مواقف الأطراف الدولية تكشف أن تركيا وروسيا هما أكثر اللاعبين الدوليين تمتعاً بسياسة متماسكة تجاه الأزمة، فيما يتعلق بالاستراتيجية والأدوات، وأن الكثير من جوانب الالتباس في مواقف بعض الأطراف الكبرى الأخرى يرجع إلى كونها سياسات ردود فعل أكثر منها سياسات فعلٍ تستند إلى منطق ورؤية متبلورة، أو لأنها ليست لديها الأدوات المناسبة لتحقيق مصالحها، ومن ناحية أخرى أثارت التطورات الأخيرة تواتر التقارير والتحليلات حول سيناريو في ليبيا مشابه لسوريا من تفاهمات بين البلدين رغم حدة التناقضات. وفي التقدير، هناك تساؤلات كثيرة حول أبعاد علاقة الطرفين ما بين تناقض استراتيجي عميق بين المشروع السياسي التركي ومصالح روسيا، ولكن هناك أيضاً تلاقٍ في ملف الغاز ومصالح مشتركة تضعهما في مواجهة كثيرين، كما تشكل الفزاعة الأردوغانية أيضاً فرصة لروسيا لترسيخ مكانتها عند أطراف إقليمية عديدة، ومع ذلك لنفس هذه الأسباب وخلافاً لسوريا توجد معادلات مختلفة في الشأن الليبي وأدوار إقليمية ودولية متعددة بصرف النظر عن تباين تبلورها، تجعل من الضروري عدم التسرع في استنتاجات وأحكام، وهناك حاجة لبعض الوقت لاتضاح مآلات الأمور في هذا البلد.