يبدو أنّ ملف "جرائم فرنسا في الجزائر" خلال فترة الاحتلال التي تمتد بين عامي 1830 و1962 لن يعرف طريقه إلى الحل قريباً، بعد أن أصبحت إحدى أوراق ضغط لدى جهات في البلدين، وبينما أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن نيات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "صادقة" باتجاه العلاقات الثنائية ومستقبلها، أعلنت مجموعة من قدماء "أشبال الثورة" استعدادهم لمقاضاة باريس.
مبادرة لمقاضاة فرنسا
وأوضح القائمون على المبادرة، وهم أكاديميون وحقوقيون وعسكريون سابقون، في جلسة عمل حضرتها "اندبندنت عربية" بعيداً عن أعين الصحافة، أنهم بصدد جمع الأدلة المادية، ثم الوصول إلى عشرة ملايين توقيع، لمباشرة متابعة فرنسا في المحاكم الجزائرية والدولية. مبرزين أن المبادرة ستتوسّع لتشمل دولاً أفريقية عرفت جرائم ومجازر ضد الإنسانية خلال فترة الاستعمار الفرنسي لها، وكشفوا أنه سيُجرى الاتصال بمتخصصين في مختلف الميادين لضبط الأدلة، ووضع استراتيجية العمل، من أجل الوصول إلى نتائج ملموسة، ومن أجل الإنصاف وعدم النسيان.
وبدأت أولى الخطوات بجمع بعض الوثائق والأدلة، وقُسِّمت محاور الجرائم إلى 14 محوراً، والشروع في الاتصال بالمؤرخين والحقوقيين الذين يمكن أن يساعدوا في كشف الجرائم، وتقديم الأدلة الموثقة بقصد تحريك المبادرة ولفت الانتباه الشعبي، وتقرر بعد استيفاء الشروط الشروع في محاكمة "فرنسا الاستعمارية" شعبياً، قبل الإقدام على تحريك دعوى عمومية على الأراضي الجزائرية، ثم على مستوى المحاكم الدولية، كما ينوي أصحاب المبادرة اللجوء إلى الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ومحكمة الجنايات الدولية، ووضع كل الأدلة أمامها بغاية تدويل القضية.
جرائم ثورة التحرير أولوية
وفي السياق ذاته، قال المؤرخ محمد الأمين بلغيث، الذي يعتبر أحد الأعضاء الفاعلين في المبادرة لـ"اندبندنت عربية"، "الأولوية في جمع ملفات الجرائم الفرنسية يجب أن تكون بين عامي 1954 و1962، أي خلال ثورة التحرير، لأن الجرائم موثقة، وبعض الضحايا ما زالوا على قيد الحياة"، معتبراً أن جرائم فرنسا "لا تختلف عن تلك التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في فلسطين".
وشدد بلغيث على أن تجريم الاستعمار الفرنسي "ليس بالسهولة التي يتصوّرها البعض، لأن محاكمة فرنسا خلال تلك الفترة تعني محاكمة الجنرال ديغول، وهو الأمر الذي لن يتقبله الفرنسيون، لأنه بمثابة النبي عندهم"، وقال "إذا نجحنا في تجريم فرنسا على جرائمها خلال الحرب التحريرية، يمكن بعدها محاكمتها حسب الجرائم المرتكبة في المناطق والبلدات إلى غاية الوصول إلى البداية الاستعمارية والجرائم الأولى"، مشيراً إلى أن هذا الملف "طويل وشائك، ويحتاج إلى الصبر والإصرار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان رئيس البرلمان سليمان شنين، قد تلقّى الشهر الماضي مراسلة من 120 نائباً قدّموا مشروعاً تمهيدياً حول قانون تجريم الاستعمار الفرنسي بين 1830 و1962، يستفسرون عن "مآلات المشروع، وعن السبب الكامن وراء التأخر في برمجته بجدول أعمال مكتب البرلمان، على الرغم من عدم وجود أي عوائق قانونية أو تنظيمية تقف في وجه القانون"، وطالبوا ببرمجة هذا القانون في جدول الأعمال، باعتباره "مشروعاً مهماً"، وفي ظل تساؤلات الرأي العام والنواب حول مصيره.
تجاهل برلماني متواصل
كما سبق لمكتب البرلمان في يناير (كانون الثاني) 2012، أن أسقط المشروع بعد أن اقترحه نواب يمثلون 14 حزباً سياسيّاً شكلوا "جبهة الدفاع عن السيادة والذاكرة"، ردّاً على قانون أصدره البرلمان الفرنسي في فبراير (شباط) 2006 يمجّد الاستعمار، وفي عام 2009 لقي مشروع قانون مماثل حول تجريم الاستعمار الفرنسي مصيراً مجهولاً، بعد وصوله إلى رئاسة البرلمان وسط تقاذف المسؤوليات بشأنه.
وتهدُف مسودة مشروع قانون تجريم الاستعمار إلى تجريم الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي اقترفها بالجزائر خلال الفترة من 1830 إلى 1962، وما نتج عنها من آثار سلبية، وإنشاء محكمة جنائية جزائرية خاصة لهذا الغرض، مهمتها محاكمة كل مجرمي الحروب والجرائم ضد الإنسانية.
القضاء الفرنسي مسيّس
ويشدد أستاذ القانون الدولي محمد ناصر أبو غزالة، أحد أعضاء المبادرة، لـ"اندبندنت عربية"، على ضرورة "التدقيق في حصر الجرائم وتوثيقها"، مشيراً إلى أن هناك جرائم موثقة بشكل دقيق، مثل "إبادة ومسح 44 قرية من الخريطة بسكانها وحيواناتها خلال أسبوع واحد عام 1945"، وعبّر عن أسفه مما وصفه بـ"التخوّف من كتابة التاريخ"، بعد أن حذّر بعض ممن صنعوا الثورة أن الوطن "سينفجر من الحقائق المذهلة في حال كتبوا التاريخ".
وتابع أبو غزالة، "فرنسا حين علمت أن الجزائر تسعى لـ(تجريم الاستعمار) سارعت إلى إصدار قانون (تمجيد الاستعمار)، على أساس أنه أتى بالحضارة وبنى العمارة"، موضحاً "أن هناك دعاوى قضائية مستقلة عدة ضد الجرائم الفرنسية رُفِضت من طرف القضاء الفرنسي" الذي وصفه بـ"المسيس وغير المستقل".
لماذا أخفقت الجزائر في دفع فرنسا إلى الاعتراف بجرائمها؟
وبعيداً من المبادرة، يجيب الأستاذ الجامعي في الفكر الإسلامي عمار جيدال، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، عن سؤال حول أسباب فشل الجزائر في دفع فرنسا إلى الاعتراف بجرائمها، قائلاً "توجد إرادة ثابتة من الجماعة الوطنية على إدانة فرنسا الاستعمارية، وضرورة مطالبتها بالاعتذار من جرائمها. لكن هذا الاتفاق العام بين الغالبية الساحقة في المجتمع الجزائري لم يعبّر عنه بشكل صريح لدى الطبقة السياسية"، وأضاف "يوجد تناقض بين الإرادة الشعبية الحقيقية والإرادة الشعبية الرسمية".
ويرجع جيدال الفشل إلى نقاط عدة، أولها أنّ "القوى السياسية الظاهرة في الخريطة ليس لها سند شعبي حقيقي، ومعظمها نشأ بالمنشطات، ولا يستمر إلا بها، وثانياً عدم التأسيس لقوى سياسية حقيقية تحمل همّ الجماهير، وتعبّر عنها، وتضعها موضع التطبيق في سياسة الدولة، وعلى رأسها مطالبة فرنسا الرسمية بالاعتذار من جرائمها المادية والمعنوية في حق الشعب الجزائري، وثالثاً غياب الإرادة السياسية الحقيقية التي توجب تحويل الشعور الجماهيري العام إلى قرار سياسي، بسبب ارتباط مصالح بعض الطبقة الحاكمة في الجزائر بفرنسا الدولة وفرنسا الثقافة، وكذلك استمرار قوة ما يسمى الطابور الخامس الذي يقوده عدد لا يستهان به من مزدوجي الجنسية، ثم إنّ بعض الأكاديميين لا يعرف غير اللغة الفرنسية، فلا يريد لغة غيرها بما فيها العربية".
ويتابع في تحديد أسباب الفشل أن المبالغة في تقدير أثر هذا القرار "طلب الاعتذار" في مستقبل العلاقات الفرنسية الجزائرية، وهو تقدير خاطئ، قد يكون سبباً مباشراً في احتقار الساسة الفرنسيين الدولة الجزائرية والجزائريين عموماً، إضافة إلى لوبيات الانتفاع من الريع المستفاد من شيوع الاستبداد ومؤسسات الفساد، وأخيراً حرص فرنسا على الرشوة المتبادلة، إذ "علّمتنا السياسة الفرنسية عبر مختلف المراحل أنّها حريصة على أخذ مقدّرات المجتمعات، وعلى رأسها الجزائر، مقابل إسكات لسانها ومسك أيديها، وبقدر ما تحرم منها تشوّش وتحرَّض على الجهة التي حرمتها".