لا تخلو رواية ديمة ونوس الجديدة "العائلة التي ابتلعت رجالها" (دار الآداب 2020) من طابع السيرة الذاتية ولو بدت سيرة جماعية أكثر من كونها فردية أو شخصية. فالروائية نفسها هي التي تتولى فعل السرد من غير أن تذكر اسمها، متماهية في صورة الراوية، ولم تذكر أيضاً اسم أمها الممثلة فايزة جاويش التي تشكل مرتكز الرواية عموماً، ولا اسم أبيها الكاتب المسرحي سعدالله ونوس، على خلاف بقية أعضاء العائلة نساء ورجالاً الذين تسميهم، ساعية إلى جعل روايتها رواية "عائلية" في المعنى الوجودي. وإن أخذت ديمة عنوان الرواية من جملة كان يرددها سعدالله ونوس في طريقته الساخرة أو العبثية "أنتو عيلة بتاكل رجالها"، فهي لم تشأ أن تجعل صورة الأب تسيطر على الرواية، بل جعلته يطل حيناً تلو حين، من خلال اعترافات الراوية والأم وبعض النسوة. هذه ليست رواية الأب، وقد تكون رواية الأم في بعض زواياها، لكنها حتماً روايات الجدات والخالات وبنات الخالات، بحسب ما تروي عنهنّ الأم والابنة أو الراوية، ما جعل المرويات تختلط بعضاً ببعض، اختلاط الذكريات في رأس الأم التي تعيش حالاً من الحزن والوحدة والاقتلاع، فهي تقيم في لندن، بعيداً من دمشق، مع ابنتها وحفيدها الذي يمر ذكرة مرة واحدة. واختلاط المرويات بعيداً من أي نظام داخلي (خيط داخلي) ساهم في تشتيت البنية، وجعلها مشرعة على إمكانات التذكر، ولعل هذا ما قصدته الكاتبة أصلاً، وإن فاتها بأنه يساهم قليلاً في تشتيت القارئ الذي يجد نفسه صنو الأم، يلملم شتات هذه الذاكرة البعيدة والقريبة. وتعترف الراوية في الصفحات الأخيرة أنها جلست قبالة أمها وراحتا تعلكان الكلام والقصص وتبدّدان الحاضر بالماضي، وتصف نفسها لاهثة "في تنفس متلاحق وقد عشت حياتي وحياتها وحياة العائلة كلها".
الكاميرا الشاهد
طبعاً تحضر الكاميرا في الشقة اللندنية التي آلت إليها عائلة ونوس كشخص ثالث مع الأم والابنة – الراوية، ولم تأتِ الابنة بهذه الكاميرا إلا لتصور الأم تتكلم وتتداعى أمامها بحرية فتشاركها حمل "تلك الذاكرة الثقيلة" التي لا تستطيع حملها وحدها، بل جاءت بها لتسجن الزمن وتوثّقه كما تقول. وتكشف في ما قبل الختام عن كذبتها (البيضاء) بعدما ادعت أنها اشترت الكاميرا وفي نيتها إنجاز فيلم وثائقي عن أمها. وفي هذا المعنى لن تعيد الابنة مشاهدة تلك اللقطات والحكايات التي سردتها الأم. وهذا ما يبرّر عدم منح الكاتبة الأم مهمة الروي أو السرد المباشر عبر ضمير المتكلم، مكتفية وحدها بأداء هذا الفعل. إنها هي التي تروي عنها ولكن اتكاء على رواياتها معظم الأحيان، وسامحة لنفسها بأن تتدخل في فعل السرد بصفتها راوياً عليماً، قادراً على إنجاز ما يسمى "قطعاً ووصلاً" في لعبة السرد. ولعلها خانت ما وعدت نفسها به حين أكدت أن الحكاية ستظهر كما روتها الأم للكاميرا بالضبط. فالابنة تروي عن الأم وليس بلسانها، وهذا ما سمح لها بأن تنمّق وتحوّر بعض كلام الأم مستعينة بخيالها وبذاكرتها عنها، وهذا أيضاً فعل خيانة للقرار الذي أعلنته بنفسها.
وكان في إمكانها فعلاً أن تتيح الفرصة للأم كي تؤدي دور راوية أخرى تتوازى مع الراوية - الابنة، وهذا كان ليغني الرواية ويرسّخ بنيتها. وهنا يختلط زمن الرواية وزمن السرد حتى ليضيع زمام الرواية في تنقله العشوائي بين الكاتبة والراوية. وما يجب ملاحظته أن الرواية حافلة بوقائع وأحداث وشخصيات (ماريان، شغف، نينار، ياسمينا، هيلانة) وأجيال (ثلاثة أو أربعة) وأمكنة وفضاءات كثيرة (لندن، بيروت، دمشق وضواحيها، فرنسا، تركيا...) كانت تحتاج إلى مزيد من النظام والبناء والحبك فلا تتشتّت عبر تشتّتها الزمني والمكاني وتشتّت القارئ معها.
الأم والابنة
الأم تجلس في الصالون على كنبة رمادية وقبالتها الابنة على كنبتها الزرقاء وبينهما الكاميرا التي اشترتها الابنة لتسجل كلام الأم. الابنة – الراوية تعيش يومها منتظرة "اليوم الذي تتوقف فيه عن الانتظار"، والأم التي تتكئ على الماضي تدمن الأحلام. ومنها حلم غريب ترويه لابنتها عن نبتات "الأرضي شوكي" التي تأكل بعضها بعضاً. الأم ممثلة سابقة، في المسرح والتلفزيون، اكتشفها منذ فتوّتها المخرج رفيق الصبان، وكان أول دور لها على المسرح "ليدي ماكبث"، وبعدما تزوجت توقفت عن التمثيل... هذه بعض ملامح الممثلة المعروفة فايزة جاويش، أم ديمة وزوجة سعدالله ونوس، لكنها الآن بعدما تجاوزت السبعين تعيش غربة مزدوجة، غربتها عن نفسها وغربتها في المكان (لندن)، فهي لا تملك أوراق إقامة شرعية، لكنها تملك الحق في التذكر والسرد، مستعيدة معالم من ماضيها وبعضاً من وجوه هذا الماضي. نصف مسيحية ونصف مسلمة، والدتها حنة ووالدها يوسف، وهو الذي باتت لا تفكر فيه بعدما اختصر رحيل زوجها (سعدالله) " كل الرجال في حياتها"، كما تقول الراوية. فهي أحبته منذ أن تعرفت إليه في المسرح وظلت تحبه حتى آخر رمق فيه. وتقول الراوية: "غابت فيه واختفت، صارت هو، تحولت إلى ظله". إلا أن المفاجئ أن الأم الممثلة التي ما برحت تحتفظ بجسدها وتعابيره أو حركاته المسرحية، تراودها فكرة الانتحار يومياً، لكنها لا تقدم عليه خوف أن تربك ابنتها بموتها في غربة لندن. وثمة مفاجأة أخرى هي كلام الراوية أو الابنة عن محاولات انتحار قام بها الأب (سعدالله ونوس) في سياق تناولها العلاقة بينه وبين زوجته أو أمها. وتقول في هذا الصدد: "راح يختبر فيها كل ما يمكن للمرء أن يختبره، من الاكتئاب إلى الإسراف في كل الأمور، إلى محاولات متكررة من الانتحار". (ص116). هل مثل هذا الاعتراف هو من صميم الواقع أم أنه من نسيج الخيال؟ هل أقدم سعدالله على الإنتحار مرارا؟ مثل هذا الإعتراف مثير جداً بل مثار أسئلة وتكهنات. فسعدالله شخصية إبداعية كبيرة، إشكالية ومؤثرة، وقد عانى الاكتئاب في ظل حياة ملؤها الظلم والقهر.
ولئن كانت الرواية هي رواية الأم والشقيقات أو الخالات وبنات الخالات والجدات، فإن الأب لم يغب بتاتاً، بل هو يحضر من خلال الأم والابنة وغيرهنّ، سواء في أوقات مرضه العضال أو لحظات احتضاره أو من خلال بعض ذكريات الابنة التي كانت ترافقه إلى فندق الشام للقاء أصدقاء له. ولا تتوقّف الابنة عن التفكير بأبيها وتشعر بأنها تحتاج إليه هي التي تشبهه والتي ورثت منه الطباع والمزاج.
نسوة وإتنيات
تطل في الرواية شخصيات نسائية مهمة تمثل حالات محورية داخل السرد، ويمكن وسم الرواية بهنّ: الخالة والجدة مارايان، والدها أرمني وأمها تركية مسيحية، محافظة وحازمة في حياتها، أضاعت كنية والدها الذي فُقد في الحرب العالمية الأولى، كانت تردد أن المرأة روح ولا جسد لها. شخصية غاية في الطرافة، نظراً إلى غرابة طباعها، سخية أنفقت مالها الذي ورثته عن زوجها. وهناك شغف، الابنة الأولى لمارايان، شاركت في التظاهرات ضد نظام البعث، تزوجت من مخرج تلفزيوني تعرفت إليه في موسكو، وعندما عادا إلى سورية تحول إلى إسلامي أصولي ومحافظ، فيأخذ ابنتهما ياسمينا في عهدته ولا يدع أمها تراها طوال سنوات، يفرض عليها الحجاب ويجعلها بمثابة خادمة في البيت بعدما تزوج مرة ثاينة. تصاب شغف بالسرطان وتموت. وهنا تبرز شخصية ياسمينا ابنة شغف، وسبب اكتئابها، تنجح أمها قبل وفاتها في سرقتها من بيت أبيها المتعصّب، وتأتي بها لتعيش حياة حرة فتعمل في التمثيل المسرحي والتلفزيوني. وتبرز من النسوة أيضاً شخصية غنية هي نينار، التي درست الأدب الفرنسي في فرنسا، ممثلة أيضاً، تصاب باكتئاب فيطلب منها طبيبها النفساني أن تدوّن يومياتها. تحب شاباً سورياً معارضاً يدعى فرحان لكنه يموت أيضاً ولكن في إسطنبول. نهاية نينار مأسوية أيضا فهي تتعرض لانفجار في الرأس يقضي عليها في غربتها. ومن خلال هؤلاء النسوة تحضر جدات مثل هيلانة وحنة وغيرهما، ما يجعل الرواية رواية نسائية في المعنى العائلي وليس النسوي، وهنا تكمن الفكرة الفريدة في الرواية. وليت الكاتبة ديمة منحت هؤلاء النسوة فرصة التحول إلى راويات جانبيات أو هامشيات، فتتحدّث كل واحدة منهنّ بنفسها عن نفسها، ما يجعل تداخل الحكايات والقصص أشد تناسقاً وتنظيماً. فمن خلال هؤلاء النسوة سردت ديمة فصولاً مهمة من تاريخ سوريا ومن التعدد الإتني والديني الذي عرفته سوريا، عطفاً على تطرقها إلى الثورة السورية التي جعلتها "خلفية" داخل الرواية وفضحها بجرأة قسوة النظام الاستخباراتي الذي دمّر البلد وأهله.