"السباحة في السدود أمر خطير ومحظور"، هو محتوى رسالة نصية بعثت بها وزارة الموارد المائية الجزائرية، إلى الهواتف الجوالة لملايين من الجزائريين، مطلع يونيو (حزيران) الحالي، تخفي وراءها ظاهرة خطيرة بات يُصطلح عليها "أموات البرك والسدود" في مناطق "الظلّ"، كما وصفها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وهي المناطق والولايات التي تضم أحياءً وتجمعات سكانية تفتقر إلى المرافق التنموية.
فاجعة الأطفال الأربعة
على مدار سنوات، شهدت مدن جزائرية عدداً من القصص المأساوية لغرق أطفال ومراهقين، ليس في الشواطئ الساحلية وإنما في البرك والسدود، التي يقطعون آلاف الكيلومترات للوصول إليها في بيئة قاسية، فيُصّبحون مجرد أرقام مع مرور الزمن، لكن الظاهرة في تفاقم.
في مايو (أيار) الماضي، فجع الشارع الجزائري بوفاة أربعة أطفال من عائلة واحدة غرقاً في حوض مائي في قرية بوجلال الغرف التابعة لولاية بومرداس، الواقعة على بُعد 50 كيلومتراً شرقي العاصمة الجزائر.
خيمت أجواء الحزن الممزوجة بالحسرة على القرية، بعدما كشفت مصالح الحماية المدنية (الدفاع المدني) أن الضحايا هم ثلاثة أطفال وبنت تتراوح أعمارهم بين 7 و11 عاماً جرى نقلهم إلى مصلحة حفظ الجثث في مستشفى برج منايل الحكومي، بينما فتحت مصالح الدرك الوطني التابعة لوزارة الدفاع تحقيقاً في حيثيات القضية، بيد أن المسؤول الأول عن المحافظة أصدر قراراً مستعجلاً يقضي بفرض إجبارية تسييج الأحواض المائية على كل فلاحي المنطقة.
كما اهتز الحي الفوضوي بكرمان، في الضاحية الشرقية لمدينة تيارت (غرب)، على وقع حادثة وفاة أخوين يبلغان من العمر 15 و17 سنة، في بركة مائية بمحيط الحي وغير بعيدة عن مشروع سكني.
الأخوان كانا يسبحان في البركة المائية الكبيرة التي تركتها الشركة المكلفة بإنجاز المشروع السكني، هروباً من حرارة الطقس ليفارقا الحياة، وهو ما فتح المجال واسعاً أمام أهل الضحيتين والسكان للمطالبة بالتدخل العاجل للتحقيق في بقاء ورشات سكنية مفتوحة ومهملة وبركة مائية كبيرة من دون تسييجها أو حتى وجود حارس فيها.
في حين انتهت حياة شابين، عمرهما 15 و19 سنة، غرقاً داخل بركة مائية في منطقة الحصوات ببلدية مليلي، في الجهة الغربية لولاية بسكرة جنوبي البلاد، وقد تم انتشال الجثتين من بركة أم الأرواح بعمق ثلاثة أمتار، الواقعة وسط وادي جدي، كما يُطلَق عليه.
18 وفاة في شهر
منذ بداية عام 2020، أودت "متعة السباحة" في البرك والسدود بحياة 53 شخصاً، 18 منهم في مايو الماضي فقط (16غريقاً على مستوى المسطحات المائية و2 على مستوى السدود)، وفق أرقام حصلت عليها "اندبندنت عربية".
وخلال النصف الأول من يونيو توفي 8 أشخاص، بينما تتوقع مصالح الحماية المدنية، ارتفاع العدد مع حلول فصل الصيف الذي تزيد فيه الرغبة في السباحة والاستمتاع. مع العلم أنه تم إحصاء وفاة 150 شخصاً عام 2019.
وأكد نسيم برناوي، المتحدث باسم قوات الدفاع المدني في الجزائر، وجود العديد من المسطحات المائية العشوائية التي يصعب إحصاؤها من برك ووديان وسدود وأحواض مائية، في المدن الداخلية وجنوب البلاد.
في الغالب، تنشأ هذه المسطحات لأغراض السقي في المناطق الزراعية أو الرعوية أو الورشات السكنية، لكنها تترك من دون تسييج أو رقابة، بحسب برناوي، الذي يوضح أن السباحة في البحر ليست كالبِركة، فالكثير من الأطفال يقعون ضحية افتقارهم إلى مهارة العوم أو لكون المياه ملوثة، أو يعلقون في التربة.
صدمة تعيد الحسابات
يروي الشاب بن عبد الله الهاشمي، القاطن في مدينة غرداية، الواقعة على بُعد 600 كيلومتر جنوبي الجزائر العاصمة، أنه كان من مرتادي الأودية، غير أنه أصيب بصدمة عام 2014 بفقدانه أحد أصدقائه غرقاً في حوض مائي، وقد دامت عملية البحث عن جثته نحو 20 يوماً، ومنذ ذلك اليوم قرّر الكف عن التوجه إلى هذه الأمكنة الخطيرة.
وعلى الرغم من شساعة المساحات في الجنوب الجزائري، فإن هذه المناطق لا تضم أي مشروع سياحي لأسباب تبقى مجهولة، يقول الهاشمي بكل تحسرٍ. وهو ما يجعل الأطفال يتوجهون في غالب الأحيان إلى البرك والوديان من أجل السباحة في ظل الحرارة العالية التي تتخطى الـ50 درجة مئوية، لا سيما في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب).
ويتذكر المتحدث حادثة مأساوية وقعت في مدينته غرداية، عام 2017، حين غرق شابان من خيرة أبناء المنطقة في بركة مائية. بيد أن الحادثة لم تُثنِ أطفال المدينة عن التوجه إلى البرك التي يصل عمق بعضها إلى 90 متراً، في حين يكشف هاشمي أن هناك من يقطع 40 كيلومتراً للسباحة في الوادي، مضيفاً "يعرف هؤلاء حجم الخطر الذي يترصدهم لكنهم يغامرون بحياتهم لاشتياقهم إلى مداعبة المياه واللعب وسطها، مع الترويح عن النفس".
انفلات
تروي الإعلامية الاستقصائية فتيحة زماموش، المنحدرة من مدينة ميلة، شرق الجزائر، عدة قصص عايشتها عائلات المنطقة التي فقدت أولادها في سد بني هارون، وهو أكبر سد مائيّ في البلاد تمّ تشييده عام 2001 بسعة تخزينيّة تبلغ 960 مليون متر مكعب من الماء، ويموّن ست ولايات بالماء الصالح للشرب بما يعادل أكثر من 5 ملايين نسمة.
مع كل سنة تتجدّد المخاوف من تكرار سيناريو الغرق في هذا السد، لا سيما على مستوى منطقة "العثمانية" في الولاية نفسها، التي باتت تسمى "عاصمة المياه" في الجزائر. إذ شهدت غرق أطفال صغار تتراوح أعمارهم بين 7 و12 سنة. فهذه الحوادث مرتبطة بظروف المعيشة وغياب مراكز الترفيه، تقول زماموش، إذ يلجأ الأطفال والشباب خصوصاً في المدن الداخلية إلى السدود والبرك والأودية، التي تبقى غير مراقبة بطبيعة الحال.
وتعتقد زماموش أن هذه الحوادث المتكرّرة هي مؤشر على انفلات اجتماعي لا تلعب فيه الأسرة دورها ولا السلطة المحلية أيضاً من خلال إنشاء فضاءات ترفيهية للأطفال، متسائلة "هل وفرت البلديات فضاءات خضراء أو أخرى للتسلية في أحياء سكنية؟".
العدالة الاجتماعية
بناءً على ما سبق، يتجدّد الحديث عن واقع الطفولة في الجزائر، إذ ترى الاختصاصية الاجتماعية هاجر دحماني أن "هناك مفارقة كبيرة بين القانون والواقع المأساوي لطفل الجزائر"، حيث "تعرفُ قوانين الطفولة فراغاً رهيباً ولا يزال الطفل يعاني ويلات العنف، والاختطاف، والتسول، إضافة إلى دخوله سوق العمل، كما يبقى محروماً من جوانب عديدة تعيق نموه النفسي السليم".
وتقول دحماني إن "هؤلاء الأطفال يجازفون بحياتهم في سبيل دقائق من الانتعاش فيجدون أنفسهم أمام حتمية ممارسة هوياتهم المفضلة ولو على حساب صحتهم وحياتهم غالباً". وتضيف "على الأولياء لفت نظر أبنائهم إلى خطورة هذه الظاهرة، ومراقبتهم ومرافقتهم، كما يجب على السلطات الاهتمام بأطفال الجنوب والمناطق النائية التي ينعدم فيها أدنى وسائل الترفيه والمسابح، حفاظاً على روح البراءة وتطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية بين طفل الجنوب ونظيره في المدن الساحلية".
مناطق الظل
على مدار عقود، ظلّ الجزائريون يُطلقون على المناطق القروية والريفية المهمشة بموجب سياسات حكومية فاشلة "الجزائر العميقة"، غير أن الرئيس عبد المجيد تبون ابتكر مصطلحاً جديداً هو "مناطق الظلّ"، الموظف حالياً في الدعاية الإعلامية الحكومية والخاصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قفز هذا المصطلح إلى السطح عندما عرض تبّون تحقيقاً تلفزيونياً أنجزه التلفزيون الرسمي، خلال اجتماع لمحافظي الجزائر، منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي بعنوان "معاناة في مناطق الظلّ".
ويُحمّل مواطنو هذه المناطق مسؤولية ما يحدث لهم من مآس وكوارث إلى سياسة التنمية العرجاء التي انتهجها مختلف المسؤولين المتعاقبين، وتُوجه أصابع الاتهام إلى البلديات التي لم تفكر في إيجاد أماكن ترفيه واستجمام لمواطني المنطقة على الرغم من استفاقتهم مع كل موسم حرّ على كوابيس مرعبة يشيّعون على إثرها براعم في عمر الزهور.
لا حيلة لنا
هذه التهم الموجهة إلى البلديات، تجدُ من يرد عليها. إذ يقول كرنوس محمد، رئيس بلدية سيدي يعقوب في محافظة سيدي بلعباس (غرب)، إن "ضعف الإمكانيات المالية والميزانية المخصصة للبلديات تجعلنا لا نفكر بغير المشروعات المحلية الضرورية المرتبطة بالشُغل والتعليم، وليس المرافق الترفيهية كالمسابح".
ويكشف تقرير صادر عن الداخلية الجزائرية عام 2018، إحصاء 1200 بلدية من مجموع 1541 على المستوى الوطني، تُعاني عجزاً مالياً، في مقابل 200 بلدية غنية تتموقع في الولايات الكبرى وذات النشاط الاقتصادي الكبير.
وأثارت هذه الإحصاءات حينها الكثير من الجدل في أوساط الشارع الجزائري، من منطلق أن الجزائر بلد ينام على ثروات باطنية في مقدمتها البترول والغاز، وسط تساؤلات عن مكمن الخلل، هل هو في سوء التسيير أم غياب الرقابة عن الأموال التي ترصدها الدولة للمشروعات التنموية؟
ويعتقد كرنوس، أن غرق الأطفال في البرك والأحواض المائية، مسؤولية يتقاسمها الجميع بداية من الأولياء الذين يهملون أولادهم وصولاً إلى البلديات التي تتحمل المسؤولية القانونية، إذ يتعين عليها غلق هذه الفضاءات البديلة عن المسابح والشواطئ أو تسييجها.
ويضيف "يحقُ للعائلات المتضررة من فقدان أولادها، أن تلجأ إلى المحاكم لطلب التعويض عن الخطر"، مبرزاً أنه على الرغم من عدم ارتكاب البلدية أي خطأ في واقعة غرق الأطفال، فإنه يمكن طلب التعويض عن الأخطار المحدقة في المحيط، من منطلق أن الإدارة المحلية ملزمة بإزالة الأخطار المحيطة في البلديات، سواءً كانت بنايات هشة أو عمود إنارة يُشكل خطراً أو حتى شجرة.
وحمّل رئيس البلدية، جمعيات المجتمع المدني، من منظمات ثقافية ورياضية المسؤولية، إذ تغيب حالياً عن تأدية دورها الأساسي، لافتاً إلى أنها كانت في السابق تُسهم في ترفيه الأطفال من خلال استغلال أوقات فراغهم في النشاطات الترفيهية والتثقيفية كالرسم والموسيقى والمسرح والقراءة.
من جانبهم، يقترح مواطنون في العديد من المناطق الداخلية، الاستثمار في مجالات التسلية والترفيه الموجهة إلى شريحة الأطفال والشباب، كتنصيب مسابح متنقلة لمواجهة أشهر الحر خلال فصل الصيف، إذ يتطلب الأمر تهيئة للمساحات مع إيجاد تأطير مناسب وكافٍ ومؤهل، بخاصة في المناطق الداخلية، حيث يجد الطفل نفسه أمام مساحات واسعة غير مستغلة، ويتطلع إلى قضاء فترة راحة، كما يحلم بالسباحة في مياه البحر في الشمال.