رحل الروائي الإسباني الشهير كارلوس رويز زافون أمس عن 55 سنة في لوس أنجليس التي يقيم فيها منذ العام 1993. رحل باكراً وفي أوج نجاحه العالمي ورواج رواياته في نحو50 لغة له فيها قراء يتابعونه بإصرار وشغف، حتى وسِمت ظاهرته بـ "زافومانيا" وأدرجته مراجع عدة في المرتبة الخامسة بين الكتّاب العالميين الأكثر قراءة. هذا الروائي سليل مدينة برشلونة استطاع منذ روايته "ظل الريح" الصادرة في 2001 أن يتخطى حدود اللغة الإسبانية منفتحاً على قراء العالم، وأن يحقق نجاحاً كبيراً، علماً أنها روايته الأولى للبالغين كما يقال، بعد روايات عدة كتبها لليافعين وحققت نجاحاً كبيراً في إسبانياً. يسمى زافون "تنين" الأدب الإسباني الحديث والصفة هذه مأخوذة من عادته المعروفة برسمه دائماً صورة تنين على أوراقه. ولئن كان بحق أحد ورثة الأدب الإسباني في وجوهه العريقة ولا سيما "دون كيشوت"، فهو نجح تماماً في استعادة الروح البورخيسية (خورخي لويس بورخيس) الملغزة مضفياً عليها أبعاد الحكايات الغرائبية أو الفانتاستيكية وأسرار فن "الثريلر" أو الأدب البوليسي الوجودي والمتيافيزيقي ومقاربات إيروسية، عطفاً على إجادته تقنية الرواية داخل الرواية وتعدد الرواة والكتب واعتماده رمز المكتبة بصفتها مكاناً متاهياً مشبعاً بالأسرار. إنها "اللعبة" التي أجادها زافون وسبكها بمهارة ووعي روائي ومراس تقني، متكئاً على ثقافته الدينية والتاريخية والسياسية وحدسه الداخلي. وتمكن فعلاً من إرساء ظاهرة "زافونية" غالباً ما يتحدث عنها النقد الإسباني والعالمي، وهي التي رسخت فرادته في عالم الرواية الحديثة، وجعلته روائياً شعبياً ونخبوياً في آن واحد، قادر على جذب الجماهير وإغراء القراء الحقيقيين.
بين العامين 2001 و2016 أنجز زافون رباعيته الروائية الشهيرة "مقبرة الكتب المنسية" التي تضم رواياته الأساسية: ظل الريح، لعبة الملاك، أسير السماء، متاهة الأرواح. وبلغت أرقام مبيع هذه الرباعية ملايين النسخ في ترجماتها العالمية وفتحت أمام الروائي حقولاً عدة منها كتابة السيناريوات السينمائية التي نجح فيها. تحكي رواية "ظل الريح" التي تُعدّ مفتتح هذه الرباعية قصة دانيال سمبري التي تجري في برشلونة بدءاً من العام 1945. دانيال اليتيم الأم يساعد أباه في شؤون المكتبة التي يملكها. يتبادل الأب والابن المحبة لكنهما يختلفان في أمور عدة. يصطحب الأب ابنه مرة إلى بيت غريب، فندق قديم، مبني على الطراز الغوطي، يضم ردهة تسمى "مقبرة الكتب المنسية". هنا يطلب منه الأب، وفق تقاليد العائلة، أن يختار كتاباً فيتبنّاه ويعتني به طوال حياته. وبعد أن يطوف بل يتوه دانيال الابن في المتاهة المتقاطعة الأروقة ويقلّب عناوين كتب كثيرة، تحت نظر والده،"حارس المكان"، يقع على كتابه الأثير وعنوانه "ظل الريح" لكاتب يدعى جوليان كاراكس. يكتشف الابن المراهق أن هذا الكتاب سوف يخربط حياته ويقلبها. يقرأه فيُعجب بصاحبه أو كاتبه أكثر من الرواية نفسها، فيسعى إلى معرفة المزيد عنه: من يكون جوليان كاراكس؟ هل كتب روايات أخرى؟
البحث الغامض
وفي بحثه عنه يلتقي أشخاصاً فظين أو شرسين مثل فيرمين روميرو دو توريس، المتسكع الذي يجده في الشارع والذي يكتشف فيه وجهاً آخر، إنسانياً وطيباً، فيدعوه إلى العمل في مكتبة والده. لكنه يلتقي أيضاً خلال بحثه بأشخاص رهيبين مثل الشرطي فرنشيسكو جافييه فوميرو، المتورط في أعمال شنيعة خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية. وشيئاً فشيئاً يكتشف دانيال هذا الكاتب السري الذي يدعى جوليان، الروائي، وعازف البيانو في الليل. يكتشف أصدقاء طفولته، وحبيبته بينلوب وبعض الخيانات التي حصلت. وهنا يقارب القارئ السر الكبير الذي قلب حياته ويكتشف أوجه تشابه بين حياة دانيال وحياة جوليان. حتى حكاياتهما تتشابه وتتقاطع في أحيان. تتجلى في هذه الرواية الفانتاستيكية الأسرار التي بناها زافون على طريقة "اللعبة الروسية"، وكأن كل سر ينم عن سر آخر، ولكن في جو يتراواح بين الواقعية والمتخيل.
أما رواية "لعبة الملاك" فلا تبدو ظاهراً أنها الجزء الثاني من الرباعية، فأحداثها تدور قبل عشرين عاماً من أحداث الرواية الأولى "ظل الريح"، لكن خيطاً سردياً متيناً يربطها بها، فمكتبة سمبري تحضر هنا وتنكشف ملامح من وجه أم دانيال الراحلة. لكنّ الوقائع تجري في منزل البرج الذي انتقل إليه كاتب شاب يدعى ديفيد مارتن، وهو سيمثل محور السرد في الرواية الحافلة بـ"التشويق" وفيها تحصل جرائم ملغزة. والجديد في الرواية جوها الفانتاستيكي القائم على خلفية دينية، في إسبانيا مطلع القرن العشرين. ديفيد مارتن كان شاهد بعينيه والده مقتولاً عندما كان صغيراً، ومنذ تلك الجريمة يعيش في كنف بل حماية رجل يدعى دون بيدرو فيدال، وهو كاتب أيضاً. لكنّ الحدث الرئيس في الرواية يتبدّى في العرض الذي يتلقاه دافيد لاحقاً من ناشر باريسي يطلب فيه منه أن يؤلف كتاباً يكون أكثر من رواية، كتاباً يؤسس عقيدة جديدة. يوافق ديفيد على العرض ويوقع العقد من دون أن يعلم أي مغامرة يخوض وأي عواقب خطرة سيواجه. وهنا لا بد من تذكر العقد الذي وقعه فاوست في مسرحية غوته الشهيرة مع مفيستو رمز الشر في العالم.
برشلونة والمكتبة
في رواية "أسير السماء" ثالثة الرباعية، يجد القارئ نفسه في برشلونة العام 1957 وتحديداً في مكتبة سمبري أيضاً. يطرق الباب زبون أعرج يبحث عن طبعة خاصة وفخمة من رواية "كونت دو مونت كريستو" للروائي الفرنسي ألكسندر دوما، وعندما يحصل على النسخة يدعها باسم فيرمين مساعد سمبري، وفي داخلها توقيع ورسالة مثيرة ترتبط بالماضي. إنها الأيام السود التي شهدتها إسبانيا تحت حكم الديكتاتور فرانكو، في سجن منونجويك وكان من ضمن المساجين فيرمين نفسه الذي يحمل الرقم 13. وهنا تظهر أشباح الماضي الطالعة من تلك المقبرة، مقبرة الكتب المنسية الحافلة بالأسرار. يبدو زافون في هذه الرواية كأنه يوجه تحية إلى رواية "كونت دو مونت كريستو" وصاحبها ألكسندر، فهو ينطلق منها ليلقي ضوءاً على سيرة فيرمين، هذا المتشرد الذي صادفه دانيال سمبري في الشارع ووظفه مساعداً في المكتبة في رواية "ظل الريح".
في رواية "متاهة الأرواح" ينتقل زافون إلى برشلونة المدمرة العام 1938 ليروي قصة فتاة تدعى إليسيا تواجه قدرها في ظل حلول نظام فرنكو العسكري وانتصاره. تنتقل الرواية من ثم إلى العام 1959 وكانت إليسيا التحقت بالشرطة السياسية. توكل إليها مهمة التحقيق بحادثة اختفاء وزير التربية والثقافة الذي يدعى موريسيو فالس. الحادثة معقدة ومريعة والتحقيق فيها سيقود إلى ما يشبه المتاهة. ولعل اكتشافها كتاباً عنوانه "متاهة الأرواح" يحملها على التعرف إلى دانيال سمبري، صاحب مكتبة سمبري، في لقاء على غرار التنويم المغناطيسي تطل فيه أشباح رواية "ظل الريح"، أول أجزاء الرباعية. وخلال هذا التحقيق يظهر أشخاص على مقدار من العنف والقسوة وتنكشف أعمال سرقة وقتل وانتقام تعود إلى أجواء الحرب وجرائمها. لكنّ زافون لا يقصر الأحداث على برشلونة بل ينتقل إلى مدريد الحافلة بالسجون والمحاكمات غير القانونية والمحاصرة بالخوف والإرهاب.
رباعية "مقبرة الكتب المنسية" تفي شروط ما يسمى الروايات المتسلسلة والمنفصلة في وقت واحد، وتمكّن زافون من نسج خيط سردي داخلي متين يجمع الروايات بعضاً ببعض، سواء من خلال استحضار بعض الشخصيات من رواية إلى أخرى، أم عبر إرساء أجواء تتشابه كثيراً في سرّيتها ولغزيتها، ثم عبر أسلوبه الروائي المنساب ولغته الجميلة والرشيقة، ما يسمح بإطلاق صفة "الرواية النهر" على أعماله الروائية.
كارولس رويز زافون حاضر في المكتبة العربية وله قراء كثر أقبلوا ويُقبلون على قراءة رباعيته التي تولت ترجمتها دار الجمل التي تملك حقوق النشر العربي، وقد نقلها من الإسبانية المترجم معاوية عبد المجيد. وسوف تصدر الدار لاحقاً أعماله الروائية المخصصة للشبان.