جرت مياه النيل، أمس الجمعة، على نحو متسارع باتجاه نيويورك حيث أروقة "التدويل" للنزاعات المُهددة للأمن والسلم الدولي، بعدما تقدمت مصر إلى مجلس الأمن عبر بعثتها الدائمة إلى الأمم المتحدة، بخطاب تضمن احتجاجاً ودعوة للمجلس "إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان التفاوض بحسن نية"، وفق بيان لوزارة الخارجية المصرية صدر بعد ساعات من تصريح وزير الخارجية الإثيوبي غيدو أندارغاشيو، جاء فيه، "إن بلاده ماضية قدماً في ملء سد النهضة الشهر المقبل سواء بالاتفاق مع مصر أو من دونه".
وبينما يتواصل حراك دبلوماسي من جانب الولايات المتحدة والبنك الدولي وأطراف أوروبية حول القضية، طالبت مصر، في خطاب، مجلس الأمن بالتدخل و"تحمل مسؤولياته لتجنب أي شكل من أشكال التوتر وحفظ السلم والأمن الدوليين"، واستند الخطاب إلى "المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز للدول الأعضاء أن تنبه المجلس إلى أي أزمة من شأنها تهديد الأمن والسلم الدوليين"، حسبما ذكر بيان لوزارة الخارجية المصرية.
شكوى من عشرات الصفحات
ودعا الكتاب المصري إلى مجلس الأمن المكون من 63 صفحة، اطلعت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، "المجلس إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان التفاوض بحسن نية تنفيذاً لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي من أجل التوصل إلى حل عادل ومتوازن لقضية سد النهضة الإثيوبي، وعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية، قد يكون من شأنها التأثير في فرص التوصل إلى اتفاق".
وتضمن الخطاب محاور استعرضت الحقائق كافة حول سد النهضة وتفنيد المقولات الإثيوبية بشأنه، والإشارة إلى الاتفاقات الثنائية والدولية والأسانيد القانونية المؤكدة لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وموقف مصر من الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل، واستعراض إعلان المبادئ عام 2015 ومدى مخالفة إثيوبيا لبنوده، واتفاق واشنطن فبراير (شباط) الماضي، وما تعهدت إثيوبيا بالالتزام به خلال المفاوضات التي جرت برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، وتوضيح الآثار البيئية والاقتصادية للسد وتهديده للأمن المائي لبلدان حوض النيل.
وبالإضافة إلى تضمن الخطاب الاتفاقيات التاريخية الخاصة بتقاسم مياه النيل، بما في ذلك المعاهدات التي وقّعتها إثيوبيا مع بريطانيا العظمى إبان الاحتلال البريطاني لمصر والسودان، التي تمثل أحد أهم الأسانيد القانونية لاحتفاظ مصر بحصتها في مياه النيل التي تصل إلى 55.5 مليار متر مكعب من المياه، فقد تناول الخطاب الاتفاق المعنون بـ"إطار التعاون بين جمهورية مصر العربية وإثيوبيا"، والموقّعة من الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ورئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زيناوي، وتتعهد فيها إثيوبيا بعدم الإضرار بمصالح مصر المائية واحترام الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل، وعدم قيام أي من الطرفين بمشروعات تلحق الضرر بالطرف الآخر.
وقالت وزارة الخارجية، إن مصر اتخذت هذا القرار "على ضوء تعثر المفاوضات التي جرت أخيراً حول سد النهضة نتيجة للمواقف الإثيوبية غير الإيجابية، التي تأتي في إطار النهج المستمر في هذا الصدد على مدار عقد من المفاوضات المضنية، مروراً بالعديد من جولات التفاوض الثلاثية، وكذلك المفاوضات التي عقدت في واشنطن برعاية الولايات المتحدة ومشاركة البنك الدولي، وأسفرت عن التوصل إلى اتفاق يراعي مصالح الدول الثلاث، وهو ما قوبل بالرفض من إثيوبيا، ووصولاً إلى جولة المفاوضات الأخيرة التي دعا إليها مشكوراً السودان الشقيق، وبذل خلالها جهوداً مقدرة من أجل التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يراعي مصالح كافة الأطراف".
وأكدت القاهرة أن "كافة هذه الجهود تعثرت بسبب عدم توفر الإرادة السياسية لدى إثيوبيا، وإصرارها على المضي في ملء سد النهضة بشكل أحادي بالمخالفة لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في 23 مارس (آذار) 2015، الذي ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، ويُلزم إثيوبيا بعدم إحداث ضرر جسيم لدولتي المصب".
وقال مساعد عبد العاطي شتيوي، أستاذ القانون الدولي، إن الخطاب المصري يستعرض "التعسف والتعنت الإثيوبي خلال سنوات المفاوضات التي اقتربت من عقد من الزمن، وكذلك مدى مصادر تهديد إثيوبيا للأمن والسلم الدوليين، من خلال خطتها أحادية الجانب لبدء ملء بحيرة السد دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب، والأضرار الحتمية التي ستتعرض لها كل من مصر والسودان أيضاً". موضحاً، أن الخطاب جاء في صورة وثيقة دبلوماسية وقانونية تستعرض حجج مصر في الدفاع عن موقفها الرافض لقرار أديس أبابا بالمضي قدماً في الملء من دون اتفاق، وأيضاً توضيحاً للأسانيد القانونية والاتفاقيات والمعاهدات ذات الصلة.
وقال الباحث في الشأن الأفريقي حسام الدين محمود، إن مصر استنفدت الوسائل كافة في التفاوض، سواء من خلال المفاوضات الثلاثية وبمساندة بعض المكاتب الاستشارية، وكذلك المفاوضات الثلاثية المباشرة، وايضا بمشاركة الولايات المتحدة والبنك الدولي وأطراف أخرى كمراقبين أو وسطاء، ومن ثمّ فإن تصعيدها للمسألة على مستوى مجلس الأمن يمثل ربما "محاولة أخيرة" لتأكيد تمسكها بالمسار التفاوضي الذي فشل "بسبب التعنت الإثيوبي ورفض أديس أبابا الوصول إلى أي اتفاق ملزم، بل كما ذكرت علناً تريد فقط مبادئ استرشادية يمكن التنصل منها في أي وقت"، على حد وصفه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استنفار دبلوماسي
وبينما يتواصل حراك دبلوماسي مكثف حول الأزمة لا يزال معظمه غير مُعلن. وقال رئيس البنك الدولي، الذي يدعم إنشاء السد مالياً، إن التمويل يتطلب تفاهم وتعاون إثيوبيا مع جيرانها.
وقال ديفيد مالباس، رئيس مجموعة البنك الدولي، إنه تواصل أخيراً مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بشأن الموافقات اللازمة من البنك للتمويل. وأوضح في تغريدة على حسابه بموقع "تويتر"، مساء الخميس، أن الأمر يتطلب توحيد سعر الصرف في إثيوبيا، وقبل ذلك الحفاظ على "الحوار البناء" مع الدول المجاورة بشأن مشاركة المياه.
وبدوره، قال جوزيب بوريل، نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأوربي، الذي شارك كمراقب في المفاوضات الأخيرة إلى جانب الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا التي تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي، إنه بحث مع الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي عدة قضايا، بينها سد النهضة الإثيوبي.
يأتي ذلك بعد يوم من تأكيد واشنطن، مسؤولية إثيوبيا عن الوصول إلى اتفاق ملزم بعدما تم التوافق حول أغلبية الأمور الفنية المتعلقة بتشغيل وملء السد، وطالب مجلس الأمن القومي الأميركي أديس أبابا بإظهار روح قيادية قوية، بإبرام "اتفاق عادل بشأن السد قبل البدء في الملء الأول".
وقال المجلس، التابع إلى البيت الأبيض، في تغريدة بحسابه على موقع "تويتر"، إن "257 مليون شخص في شرق أفريقيا يعوّلون على إثيوبيا لإظهار قيادة قوية، ما يعني إبرام صفقة عادلة. تم حل المشكلات الفنية وحان الوقت لإنجاز الاتفاق قبل الملء".
وأكدت مصر، في خطابها إلى مجلس الأمن، "مجدداً حرصها على التوصل إلى اتفاق يحقق مصالح الدول الثلاث ولا يفتئت على أي منها، وهو ما دعا مصر إلى الانخراط في جولات المفاوضات المتعاقبة بحسن نية وبإرادة سياسية مُخلِصة".
وشددت القاهرة على أنه "نظراً لما تمثله مياه النيل من قضية وجودية لشعب مصر، فقد طالبت مجلس الأمن بالتدخل وتحمل مسؤولياته لتجنب أي شكل من أشكال التوتر وحفظ السلم والأمن الدوليين".
الخطاب المصري في يد فرنسية
ورغم أن باريس تبدي حرصها على عدم التدخل في الأزمة رغم علاقاتها الوثيقة بأطرافها، وعلى رأسها مصر، فضلاً عن دورها التقليدي في أفريقيا، فإن مكاتب استشارية فرنسية كانت تسعى خلال السنوات الماضية بناء على تكليف من الدول الثلاث للوصول إلى تقرير توافق عليه البلدان الثلاثة حول الآثار والتداعيات المحتملة للسد على دولتي المصب، وهو ما تحفظت عليه إثيوبيا والسودان عام 2018، وكان بمثابة أول خطوة عملية لعرقلة المسار التفاوضي بعد الوصول إلى إعلان المبادئ.
وأخبرتنا مصادر دبلوماسية فرنسية، أن بلادها التي تتولى رئاسة مجلس الأمن، "سوف تضطلع بكل تأكيد بمسؤوليتها ودورها كرئيس لمجلس الأمن الدولي إزاء الخطاب المصري الموجه إليه". وأوضحت المصادر، أنه من الممكن إدراجه على أجندة المجلس بصورة عاجلة نظراً إلى أن ملء خزان سد النهضة بات وشيكاً، وأن ذلك يمكن أن يتم ضمن بند "وضع السلم والأمن في أفريقيا"، مؤكدة أن مشاورات ستُجرى في المجلس لتحديد الصيغة الملائمة لمناقشة الخطاب، والإجراء الذي سيتخذه المجلس في هذا الشأن.
وقال أحمد الطاهري، الباحث المتخصص في الشؤون الدبلوماسية، إن الهدف من التحرك المصري تحميل مجلس الأمن مسؤوليته، فيما يخص الأمن الجماعي للدول أعضاء الأمم المتحدة، موضحاً أن الصورة التي سيتناول بها المجلس الخطاب المصري يمكن أن تكون جلسة خاصة، وتنتهي إلى بيان رئاسي أو بيان بالمناقشات، معتبراً أنه من الصعب اللجوء في هذه المرحلة إلى استصدار قرار ملزم يتطلب موافقة الأعضاء الدائمين وهناك تباين حول موقفهم أو رغبتهم في حسم القضية عن طريق الأمم المتحدة. وأشار إلى أنه "عندما تطلب دولة جلسة انعقاد يجب أن تكون متوافقة مع الأجندة. ولذلك استندت مصر إلى المادة 35 من الميثاق وهي "حفظ السلم والأمن"، لأن هناك بنداً ثابتاً على الأجندة تحت هذا العنوان، الذي ستتمحور حوله الجلسة.
وذكر أن المناقشة وشكلها يحددها رئيس مجلس الأمن، وهي فرنسا حالياً، بالتشاور مع الأعضاء الدائمين. والمناقشة إما تكون مغلقة بحضور مصر وإثيوبيا والسودان وأعضاء المجلس أو تكون مفتوحة ومتاحة لأي من أعضاء الأمم المتحدة.
وفي نهاية مارس الماضي، دعت رسالة سلّمها وزير الخارجية المصري سامح شكري من الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون حول تطورات سد النهضة، إلى "قيام فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي ببذل جهودها لدفع إثيوبيا للتوقيع على اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة حفاظاً على الأمن والاستقرار بمنطقة القرن الأفريقي"، وذلك بعد أيام من فشل مباحثات واشنطن في الوصول إلى اتفاق بعدما انسحبت إثيوبيا من الجولة الأخيرة التي شهدت توقيع مصر من طرف واحد على وثيقة "اتفاق واشنطن"، الذي تناوله الخطاب المصري إلى المجلس بالتفصيل كاتفاق "عادل ومرضٍ" للجانب المصري، فضلاً عما تعهد إثيوبيا بالالتزام به خلال مفاوضات واشنطن التي امتدت لأربعة أشهر.
إثيوبيا ماضية في خطتها
وخلال مقابلة مع وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، قال الوزير الإثيوبي، "نحن ماضون قدماً وسنبدأ في ملء سد النهضة الشهر المقبل حتى من دون الاتفاق". مضيفاً "بالنسبة لنا، ليس من الضروري التوصل إلى اتفاق قبل البدء في الملء. وبالتالي سنبدأ العملية في موسم الأمطار المقبل".
وشدد وزير الخارجية الإثيوبي على أن "إثيوبيا لن تتوسل إلى مصر والسودان، لاستخدام موارد المياه الخاصة بها لتنميتها''. مضيفاً "إثيوبيا تدفع ثمن بناء السد بنفسها ولا تدفع أي دولة لها مليماً واحداً"، معتبراً أنه "إذا انتظرنا مباركة الآخرين على ملء السد، فإنه سيظل خاملاً لسنوات، وهو ما لن نسمح بحدوثه أبداً".
وتعليقاً على ذلك أوضح الأكاديمي الإثيوبي والمحاضر في القانون الدولي ديجن يماني مسيلي، أن ما ذكره وزير خارجية إثيوبيا، يمثل الموقف الرسمي للحكومة الإثيوبية، الذي سبق لرئيس الوزراء آبي أحمد تأكيده قبيل بدء المفاوضات المنتهية.
وأضاف، "قد كان هذا موقفاً حازماً من الحكومة منذ أن أعلنت عن الجدول الزمني للمرحلة الأولى للملء الأول لسد النهضة. وأوضحت الحكومة موقفها وتصميمها على حجز 4.9 مليار متر مكعب من المياه لخزان السد في المرحلة الأولى من فترة الملء الأول بدون الوصول إلى صفقة أو اتفاق. وهذا الموقف يتوافق مع القانون الدولي العام والمبدأ 5 من إعلان المبادئ لعام 2015. حيث إن إثيوبيا ليست ملزمة بانتظار اتفاق لملء سدها من جانب واحد. في هذا الصدد، لا يحتاج سد النهضة إلى اتفاق ثلاثي ليتم ملؤه بـ73 مليار متر مكعب، وأن يبدأ العمل بكامل طاقته. لذا، أجد أن موقف الوزير شرعي وسليم".
وفي المقابل، قال نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، إن إثيوبيا لم تترك لمصر بديلاً عن التوجه إلى مجلس الأمن، بعد أن "وضعتها في هذا الخيار أو خيار المواجهة العسكرية بسبب تعنتها وسوء إدارتها للمفاوضات، وبالتالي من حق مجلس الأمن الآن التحكيم بين مصر وإثيوبيا بحق الأخيرة في الملء والتشغيل للسد منفردة، وحجز ما تشاء من المياه دون مشاركة من شركائها في النهر. ومن حق مصر والسودان أن تكونا على علم بكمية الاقتطاع من المياه أثناء الملء الأول، ثم حجم تدفقات النيل الأزرق التي ستخرج من خلف السد الإثيوبي بعد انتهاء فترة الملء الأول وإلا تتسبب هذه التدفقات المائية بعد السد في ضرر بالغ لدولتي المصب سواء زراعياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو بيئياً".
وقال الكاتب والمتخصص في الشأن الإثيوبي أنور إبراهيم، إن الجولة الأخيرة لم تنجح في خلق تقارب بين وجهات النظر الثلاث، وربما قد يتطور الخلاف أكثر مما سبق. لهذا هذه المرحلة تحتاج لتفاعل وتقارب، خصوصاً أن البيانين الأخيرين لوزارتي الري المصرية والإثيوبية كل واحد منهما يتحدث عن نقطة تختلف عن الآخر. فمثلاً البيان المصري يصف الموقف الإثيوبي بالمتعنت، ويصف المفاوضات بالمتعثرة وتمسك إثيوبيا بنقاط متعددة تحاول من خلالها أن تفرض أمراً واقعاً، أما الجانب الإثيوبي فيتهم مصر بأنها "تركز على قضايا تقسيم المياه، وليس ملف التشغيل وملء بحيرة السد. وهنا يتضح أن الجانبين يختلفان في أن كل جانب دخل المفاوضات وفي جعبته العديد من التحفظات.
واستكمل، "الحالة التي تطفو على السطح، هي عدم الثقة وتباعد المواقف والتوجهات، الأمر الذي أدى إلى حالة من التصعيد الإعلامي والسياسي والدبلوماسي وتبادل الاتهامات، ورفض الوصول إلى اتفاقيات مبدئية لتجاوز حالة الانسداد".