ما من كاتب مسرحي وصلت به الجرأة والرغبة في تحدي الذات إلى المستوى الذي وصله الفرنسي بول كلوديل وعلى الأقل في واحدة من أشهر مسرحياته "حذاء الساتان". أما الجرأة التي نشير إليها هنا فتكمن أساساً في الزمن الذي يستغرقه العرض المسرحي: نحو إحدى عشرة ساعة، ما جعل كثراً في العالم يتعرفون على هذا النص كتابة لا على شكل عرض مسرحي. ومع هذا لا بد أن نذكر أن اثنين من كبار المسرحيين الفرنسيين: جان لوي بارو، وأنطوان فيتيز، قبل عدد محدود آخر من زملائهم، قد جرؤوا على تقديم العرض كما هو حتى وإن كان بارو قدم العرض مختصراً في خمس ساعات، عام 1943 للمرة الأولى بعد نحو عشرين عاماً من كتابة المسرحية (1924)، ليعود ويقدمها كاملة للمرة الأولى عام 1963. كما أن البرتغالي الكبير اختصرها في ست ساعات سينمائية لا تُنسى.
في ساعاتها الطويلة تتحدث "حذاء الساتان" عن القصة الغريبة للقاء مستحيل بين عاشقين، لا تتوقف محاولات ذلك اللقاء بينهما مستغرقة سنوات طويلة ومساحات عريضة جداً من المكان وربما الكون كله وصولاً إلى باب التبانة. لكننا لا نتحدث هنا عن الحب المستحيل وإنما عن اللقاء المستحيل. وطرفا الحكاية هما الدون رودريغ وحبيبته بروهيزي، اللذان نطلع على حكاية حبهما هذه بداية من خلال القسيس الكاثوليكي الإسباني الذي يطالعنا بين أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن التالي له مقيداً إلى مقدم سفينة تمخر عباب المحيط الأطلسي داعياً ربه للرأفة بأخيه رودريغ وإعادته إلى الله من خلال حبه الكبير لبروهيزي.
عند طرفي العالم
إثر ذلك تتلاحق حكاية رودريغ وغرامه ببروهيزي زوجة القاضي العجوز بيلاجي التي لم تنجب ذرية وها هي الآن تبادل رودريغ حبه مؤمنة بأن هذا الحب إنما هو وحي سماوي وبالتالي ترصد للسيدة العذراء حذاءها الساتان معلنة أنها إن قُيّض لها أن تلتقي برودريغ ستصل اليه بفضل أجنحة ملائكية. ولكن كيف سيكون اللقاء ورودريغ يتوجه إلى أميركا الإسبانية كي يؤسس دولة في العالم الجديد يكون هو نائب الملك فيها، بينما يرسل القاضي بيلاجي زوجته التي يعرف مقدار حس التضحية لديها، إلى موغادور في شمال إفريقيا لتمثل الملك الإسباني لدى نائب الملك في المدينة كاميل الذي كان قد انتزع الأراضي من المسلمين؟ هكذا يبتعد الحبيبان عن بعضهما بعضاً إلى أبعد الحدود، بل الأدهى من هذا أن موت القاضي يدفع بروهيزي إلى الزواج من كاميل في محاولة منها للوصول بهذا إلى درب الخلاص. ولكن ذات يوم في مملكته في باناما يتلقى رودريغ رسالة كانت بيروهيزي قد أرسلتها إليه في زجاجة قبل عشر سنين، فيقرر الإستجابة والعودة إليها من دون أن يعرف شيئاً عما تطورت إليه حياتها خلال السنوات الأخيرة ولا أن الحبيبة أنجبت ابنة لكاميل. وفي موغادور تستمع بيروهيزي في حلم لها إلى الملاك يخبرها أن فقط رغبة رودريغ غير المتحققة فيها ستوصله إلى الله. وحين يصل رودريغ بأسطوله يكون كاميل قد اعتنق الإسلام متمرداً على الملك فيعتقد أن رودريغ مرسل للسيطرة على المدينة ويعرض على رودريغ إعطاءه بيروهيزي كوسيلة للتراجع عن مسعاه العسكري. لكن هذه الأخيرة ترفضه عائدة إلى زوحها فيما يعود رودريغ بأسطوله خائب المسعى. وفي النهاية يرينا ملحق للأحداث رودريغ وقد أضحى بائساً متهماً بالخيانة لاجئاً إلى دير حيث تعتني به الراهبات وهو ينتظر مصيره الحتمي.
بين ريمبو والإلهام الديني
مع أن معظم كاتبي السيرة ومؤرخي حياة كلوديل غالباً ما يصرّون على أن يبدؤوا أي حديث عنه بالحديث عن أخته النحاتة كاميل التي أوصلها حبها لأوغوست رودان إلى الجنون، فإننا نفضّل هنا التغاضي عن هذا الموضوع بالنظر إلى أنه في الحقيقة لم يترك أثراً في حياة بول وعمله. وبالتالي فإن أول ما يتوجب علينا البدء به، العودة إلى ما حدث له في عام 1886 وكان له ذلك التأثير الهائل فيه. ففي يونيو (حزيران) من ذلك العام، وفيما يشبه إشراقة إلهام فجائية، اكتشف ذلك الفتى الذي لم يكن تجاوز الثامنة عشرة من عمره بعد، أشعار ريمبو فأحس كما لو أن كشفاً جديداً دخل حياته وراح يقرأ قصائد الشاعر بنهم وشغف عجيبين. وفي ديسمبر (كانون أول) من العام نفسه، وفيما كان واقفاً يتأمل ليلة الميلاد، قرب أعمدة كنيسة "نوتردام دي باري" داهمه إلهام ديني، مفاجئ هو الآخر، فتح قلبه وعقله على المسألة الدينية موصلاً إياه إلى إيمان لم يبارحه بعد ذلك أبداً.
والحقيقة أن حياة بول كلوديل كلها تكوّنت وحتى وفاته عام 1955، من هذين العنصرين الأساسيين اللذين طبعاها: الشعر المتمرد، والإيمان الديني. وهو كان يقول إن ليس ثمة أي تناقض في هذا التجاور بين شعر التمرد والإيمان. لماذا؟ لأن إيمانه الديني كان إيماناً تمردياً أيضاً. ففي ذلك الحين كان بول كلوديل، قد درس الحقوق ثم انصرف لدراسة العلوم السياسية وقد آلى على نفسه أن ينخرط في السلك الديبلوماسي كمهنة له، وكان يلاحظ أن المناخ المادي يطغى على الحياة طغياناً تاماً إلى درجة أنه صار قاعدة للحياة ولا سيما في الأجواء المدينية والعلمانية والعلمية التي كانت تحيط به.
الإيمان للتمرد على العصر؟
ومن هنا فإن انخراط كلوديل في فعل الإيمان الديني لم يكن سوى نوع من التمرد على العصر. وهو لئن اهتم بنيتشه كثيراً بعد ذلك فإنه كان يبرر اهتمامه بكون نيتشه لم يكفّ لحظة عن البحث عن إله افتقده ويخشى أن يعيش، إلى الأبد، من دونه.
عندما توفي كلوديل كان قد أضحى ذا مجد وطني كبير، وكان قبل وفاته بفترة قصيرة قد شهد، باغتباط، أعماله المسرحية وقد بدأت تدرج في "ريبرتوار" الكوميدي فرانسيز، يشهد على أهمية ذلك النجاح الكبير الذي حققته أول مسرحية قدمتها تلك الفرقة المجيدة من كتابته "بشارة مريم" التي كان كلوديل قد كتبها في العام 1912. ولقد توزعت حياة كلوديل بأسرها بين الشعر والتأمل الفلسفي وكتابة المسرحيات، وكانت تلك المسرحيات، على أي حال، ذات غرض أساسي يقوم في التعبير، شعرياً، عن ذلك التأمل الذي قاده إلى المزج بين أقصى درجات الإيمان وبين التحليل الدقيق لأعمال كتّاب وفلاسفة عاشوا بعيداً من الإيمان.
أما في المجال العملي، فقد عاش كلوديل حياته متنقلاً بين شتى البلدان، حيث أن انخراطه في السلك الديبلوماسي، كقنصل أولاً، ثم كسفير بعد ذلك، جعله يعيش سنوات وسنوات خارج فرنسا، فنراه وقد عاش في الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، والصين واليابان وألمانيا، وشارك في بعض المفاوضات الأكثر خطورة، ولا سيما مع الألمان الذين طردوه، كسفير غير مرغوب فيه، حين اندلعت الحرب العالمية الأولى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتابة البداوة الكوزموبوليتية
من سفره وتأملاته، من قراءاته العديدة، ومن انخراطه في التأمل الإيماني العميق استقى بول كلوديل مواضيع (وأشكال) مسرحياته الكبرى ومنها: "التبادل" و"الرهينة" (التي كتبها في الصين ثم أكملها في براغ) و"حذاء الساتان" (التي كتبها في اليابان وأتت تتويجاً بكل معنى الكلمة لجهوده في الشعر كما في الكتابة المسرحية). وبما أن من النادر أن نعثر، في مرحلة نضج كلوديل وكتاباته المسرحية، على أعمال كتبها في فرنسا، يعني هذا أن معظم كتاباته إنما كانت وليدة تلك "البداوة الكوزموبوليتية" التي عاشها، كما كانت وليدة التأمل العميق والمقارن في أديان الآخرين. أما الفترة الأخيرة من حياته، فترة التقاعد والانصراف للكتابة في فرنسا بعد البداوة الذهبية الطويلة التي عاشها، فقد كرسها كلوديل لكتابة تلك النصوص الشهيرة التي كانت، أساساً، تعليقات على قراءته الكتب المقدسة. ومن أشهر كتاباته في هذا السياق: "مغناة بثلاثة أصوات" (1913) "أوراق القديسين" (1915-1925) "مغامرات صوفي" (1937) "جان على المحرقة" (1937-1938) و"السيف والمرآة" (1939)، وكلها كتابات تنضح بحس ميتافيزيقي تأملي، يعبر عن كاتب لم يكفّ طوال حياته، وعلى الرغم من إيمانه العميق، عن طرح أسئلته على الإنسان، حول مصيره في علاقته بالدين والله وذاته التوّاقة للكمال.