مَن كان يوماً رئيس نظامٍ وقانون سيظل دائماً رئيس نظامٍ وقانون. لقد أمضى دونالد ترمب أسابيع طويلة في النقاش مع كبار مساعديه في الجناح الغربي من البيت الأبيض، بشأن ضرورة إلقاء خطابٍ وطنيّ حول العنصرية، في أعقاب الاحتجاجات التي اكتسحت البلاد تنديداً بجرائم الشرطة الأميركية بحقّ أصحاب البشرة السوداء على أثر وفاة جورج فلويد تحت ركبة شرطيٍّ أبيض في "مينيابوليس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدا الرّئيس متلكئاً. وشكا إلى كبار مساعديه من عدم ارتياحه بشأن توجيه ملاحظات في المكتب البيضاوي شبه الخالي، من خلف منصة القرار الرّئاسي، على غرار ما فعل في 11 مارس (آذار) لمّا أراد طمأنة الشّعب الأميركي حول جهود التّصدّي لفيروس كورونا. ففي ذلك اليوم، وُصفت أجزاء كبيرة من خطابه بالمتعفّنة، واعتبرها كثيرون فشلاً ذريعاً.
وعلى ضوء ذلك، اتّفق السيد ترمب وفريقه على أن يُلقي خطاباً منتصف يوم الثّلاثاء الماضي، يتبعه توقيع أمرٍ تنفيذي ينصّ على إصلاح جهاز الشرطة، لكن ليس من نوع الإصلاح الذي يُطالب به المتظاهرون وعدد كبير من الدّيمقراطيين. وفي العادة، يجري القول إنّ الأميركيين من أصحاب البشرة السّوداء يواجهون وباءين، أوّلهما فيروس كورونا وثانيهما جهاز الشّرطة الذي يقتلهم من دون حسيبٍ ولا رقيب. كذلك يرد إنّهم يتوسّلون السّيد ترمب حرفيّاً أن يهدّئ البلاد ويجري إصلاحات جريئة على عمل الشّرطة. ولما بدأ السّيد ترمب كلمته في حديقة الورود في البيت الأبيض، ظهرت علامات على احتمال فعله أمراً نادراً ما نهض به طيلة فترة حكمه التي تزيد على ثلاث سنوات، ويتمثّل في أداء دور المواسي الأكبر.
"لقد التقيتُ للتو عائلاتٍ مذهلة، عائلاتٍ عانت الكثير. وأعني بها عائلات كلّ من أحمد أربري وبوتام جان وأنتون روز وجمال روبرسون وأتاتيانا جيفرسون ومايكل دين وداريوس تارفر وكاميرون لامب وإيفيريت بالمر. هؤلاء أشخاص مذهلون، أشخاص مذهلون فعلاً. وما حدث لهم محزن للغاية"، بحسب السيد ترمب.
وأضاف، "فقدت هذه العائلات أحباءها في خضم مناوشات قاتلة مع الشرطة. ولكلّ العائلات المفجوعة والمتألمة، أريد منكم أن تعرفوا أنّ كل الأميركيين يشاركونكم الحزن. كونوا أكيدين أنّ موت أحبائكم لن يذهب هباء. نحن أمّة واحدة، نحزن معاً ونشفى معاً. لا يسعني أن أتخيّل آلامكم أو عمق معاناتكم، لكن بوسعي أن أعدكم بالقتال من أجل تحقيق العدالة لكلّ شعبنا".
إلى ذلك، أكّد الرّئيس الجمهوريّ الذي لم يتوانَ عن التّعبير عن غضبه العارم إزاء جماعات الأقليات والديمقراطيين منذ إعلان ترشّحه قبل خمسة أعوام، أنّ تصريحاته والمرسوم التّنفيذي "يرميان إلى إرساء منطق سليم... والدّفاع عن قضية نادراً ما نحظى بفرصة الكفاح من أجلها، تتمثّل في وجوب إيجاد أرضيّة مشتركة". بعد أن نطق السيد ترمب بهذا الكلام، سارع إلى إحباط ما تبقى من أملٍ باهتمامه في حقن ولايته الرّئاسية، بنزعتيها التجاريّة تحت لواء "أميركا أوّلاً" والمحافظة تحت لواء "النظام والقانون"، بما يعتبره كثيرون دوراً أساسياً من أدوار الرّئيس التنفيذي، ويتمثّل ذلك في توحيد بلد متنوّع ومقسّم ومملوء بالاضطرابات.
"لكنني أعارض بشدّة الجهود الرّاديكالية والخطيرة للدفاع [عن وقف تمويل] جهاز الشرطة وتفكيكه وحلّه، خصوصاً الآن بعدما حقّقنا أدنى معدل جرائم مسجّلة في تاريخنا الحديث"، وفق تعبير السيد ترمب. (في نصّ الخطاب المُعدّ مِنْ قِبَل البيت الأبيض، وردت عبارة وقف التّمويل بين قوسين؛ وكان على السّيد ترمب أن يستخدمها في انتقاد الحركة المطالبة بـ"وقف تمويل جهاز الشرطة)".
وتابع ترمب، "يعلم الأميركيون حقيقة إنه من دون شرطة، ستحدث بلبلة كبيرة في البلاد؛ ومن دون قانون، ستعمّ ربوعنا الفوضى. ومن دون أمن، ستحلّ علينا الكارثة. نحن اليوم بأمسّ حاجة إلى قادة يتمتعون بما يكفي من الوضوح الأخلاقي لذكر هذه البديهيات ويتوزّعون على جميع المستويات الحكوميّة. يعتقد الشّعب الأميركيّ بأنه ينبغي علينا دعم الرّجال والنساء الشّجعان باللباس الأزرق بسبب دفاعهم عن شوارعنا وحفاظهم على أمننا وسلامتنا".
وعلى ما يبدو، خصّص السيد ترمب الجزء الأكبر من مؤتمره الذي لم يتجاوز الـ25 دقيقة، للدفاع عن جهاز الشّرطة بجميع أقسامه. وحين لم يكن يتحدّث عن الاقتصاد، زعم أنّ "اختيار المدارس هو بيان الحقوق المدنية لهذا العام ولهذا العقد ولأبعد من ذلك بكثير ربما"، وزيّف الادّعاء بتوصّل العلماء إلى تطوير لقاح ضدّ الإيدز.
وبالتالي لم تُحاكِ كلمته بشكلٍ من الأشكال المزاج الوطني السّائد. وسيكون عليه أن يحصد أصواتاً كثيرة في صفوف النّاخبين الجمهوريين في ثماني ولايات أو أكثر، يعتبرها النّشطاء السّياسيون حاسمة لمصير سباقه الانتخابي ضدّ نائب الرّئيس السّابق جو بايدن.
فبحسب استطلاعٍ حديث لـ"رويترز" و"إيبسوس"، ترغب الغالبية السّاحقة من الأميركيين والغالبية الساحقة من الناخبين الجمهوريين في إجراء إصلاحات أساسية على جهاز الشرطة. ونذكر من بين هذه الإصلاحات، فرض حظرٍ وطني على ضباط الشرطة الذين يلجؤون إلى تطويق المشتبه فيهم بطرق تتضمن الخنق، ووضع حدٍّ نهائيّ لسياسات التّنميط العنصري.
واستناداً إلى استطلاعات أخرى الأسبوع الفائت، فإنّ 70 في المئة من الأميركيين، بمن فيهم معظم الجمهوريين، لا يوافقون على ردّ فعل السيد ترمب إزاء مقتل السّيد فلويد والاحتجاجات التي تلت وفاته في عدد من المدن الأميركيّة الكبرى.
وبالنّسبة إلى كل من لا يزال يتوقّع من السّيد ترمب أن يظهر ويتصرّف كالرّؤساء السّابقين في أوقات الأزمات، فقد آن الأوان لأن تقرؤوا الأدلة المتاحة أمامكم وتفهموا أنّ طريقة تفكيره مختلفة عن الآخرين. وصحيح أنّه يشبه الطالب الذي لا يشبع من بيانات الاستطلاع، لكنّه أعرب الثلاثاء الماضي عن استعداده لتتبع غرائزه قبل كلّ شيء، ولم تكن تلك المرّة الأولى.
يكفي أن تفكّروا لحظة واحدة في ما قالته مذيعة "فوكس نيوز"، هاريس فولكنور للسيد ترمب في دالاس [بولاية تكساس] الأسبوع الماضي، "عندما تنظر إليّ، لا ترى فيّ سوى هاريس المذيعة، ولكنني قبل كلّ شيء أمرأة سوداء وأمّ وأنت تعلم ذلك. وقد سمعناك تتكلّم عمّا حدث، ولكننا لم نرك تتحرّك لتعزّينا في هذه الظّروف القاتمة. ماذا عن تغريداتك على "تويتر": "عندما يبدأ النّهب، يبدأ إطلاق النيران". ما الذي قصدته ولمَ اخترت استعمال هذه الكلمات بالذّات؟"
إذ تزخر تلك العبارة بدلالات سّلبية بحقّ الأميركيين من أصحاب البشرة السّوداء المشاركين في حركة الحقوق المدنيّة. وقد ادّعى السّيد ترمب أنه تعلّم العبارة إياها من رئيس سابقٍ لبلدية فيلادلفيا لا من رئيسٍ سابق لبلدية ميامي. لكنّ استيعاب مايُعرف بالفلسفة "الترمبية" وكذلك أسلوب الرئيس، ليس بالأمر السّهل وعلى المرء أن يدرس بعمق وصف الرّئيس الخامس والأربعين لنفسه ولطريقة تفكيره.
"غالباً ما تُستتبع أعمال النّهب بإطلاق نيران وجريمة قتل. وهذا أمر سيء ووسيلة تهديد خطيرة. في المقابل، إذا فكّرتِ به ملياً، ستفهمين حقيقة ما حدث وكيف انهار الناس جراء أعمال النهب. أنظري إلى ما حدث"، وفق كلمات وجهها السيد ترمب إلى هاريس.
على الرّغم من كلّ اللف والدّوران، ثمّة شيء وحيد ثابت في ولاية ترمب الرئاسية المليئة بالدّراما: دونالد جون ترمب مهووس بما يصفه بـ"المذبحة الأميركية" المتفشية التي عبّر عنها في خطابه الافتتاحي.
وبعدما أعلن لبلاده أنّه "رئيس نظام وقانون"، لم يتردد في التّرويج لنفسه يوم الثلاثاء الماضي بوصفه الآن أكثر من كل وقتٍ مضى، الشّخص الوحيد القادر على تخليص الولايات المتحدة من مشاكلها وإعادة الأمور إلى نصابها.
© The Independent