طرحت عودة النظام السوري إلى ممارسة الاعتقالات العشوائية والممارسات القمعية في حق المتظاهرين ضد تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في سوريا، لا سيما في منطقتها الجنوبية، السؤال عما إذا كان التاريخ سيعيد نفسه فتشهد بلاد الشام مجدداً اندلاع تحركات شعبية لا تلبث أن تتوسع، كما حصل عام 2011 عند اندلاع الانتفاضة السلمية التي فرّخت حروباً محلية وإقليمية ودولية لم تنتهِ بعد.
ومع أن الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الرئيس بشار الأسد لم تتوقف عن تنفيذ الاعتقالات على الرغم من "المصالحات" التي حصلت في العديد من المناطق التي شهدت اشتباكات دموية طوال السنوات التسع الماضية، فإن توقيفها العديد من شبان محافظة السويداء الأسبوع الماضي على خلفية انطلاق تظاهرات شعبية متفرقة في بلدات وقرى المحافظة احتجاجاً على تراجع الوضع المعيشي وصعوبة تأمين المواد الغذائية الأساسية نتيجة الانخفاض الدراماتيكي لقيمة الليرة السورية، يذكّر بحملة القمع الوحشي التي حصلت في محافظة درعا الملاصقة للسويداء وأدت إلى تعذيب وقتل عدد من الفتية وصغار السن في 15 مارس (آذار) من عام 2011 .
فبعد تلك الحملة انتقلت التظاهرات إلى المحافظات الأخرى فتجاوز السوريون الناقمون على ممارسات النظام حاجز الخوف وطالبوا بإسقاط النظام.
الآلاف في مدينة بصرى الشام في محافظة درعا يرددون " عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد" خلال تشييع كبير وحاشد شهدته المدينة لقتلى من الفيلق الخامس بتفجير استهدف حافلة تقلهم. طالب المتظاهرون بإسقاط النظام وطرد إيران وأداتها تنظيم حزب الله من سوريا.
— وائل عبد العزيز | Wael Abdulaziz (@waelwanne) June 21, 2020
pic.twitter.com/QxdYDrlc3V
السويداء ودرعا والفوارق مع 2011
عودة ناشطي السويداء إلى شعار إسقاط النظام ورفع شعار "ارحل ارحل يا بشار" قبل 15 يوماً، يكرّر السيناريو السابق من حيث رد الفعل على القمع.
لكن الفارق مع 2011 أن الشعارات شملت هتافات ضد الوجود الإيراني، وضد تصريحات لأركان النظام، آخرها لمستشارة الأسد بثينة شعبان التي دعت إلى الصمود في وجه الضغوط الاقتصادية والعقوبات الأميركية على النظام وقانون "قيصر"، قبل أن يوضع موضع التنفيذ ويشمل 39 شخصية وكياناً من النظام وداعميه، في طليعتهم الرئيس وزوجته أسماء الأخرس، في 17 الحالي. ووصفتهما بيانات وزارة الخارجية الأميركية بـ "مهندسي معاناة الشعب السوري". كما شملت شقيق بشار، ماهر.
كما أن الفارق مع بداية الأزمة السورية هو أن بلاد الشام باتت منقسمة وموزعة على نفوذ إيران والميليشيات التابعة لها، وروسيا وتركيا وأميركا والتحالف الدولي بحيث تشترك طهران وموسكو مع نظام الأسد في السيطرة على مناطق النظام، بعد انتقال الثورة من سلمية إلى مسلحة، وحصول حروب متنقلة حيث ساندت طهران من البداية، ومن ثم موسكو بدءاً من 2015، جيش الأسد، فسُحقت المعارضة في العديد من المحافظات، فيما أُجبرت تشكيلاتها العسكرية في محافظات أخرى على الاستسلام تحت عنوان "المصالحة".
ومن الفوارق الكثيرة أيضاً، أن الانتفاضة اندلعت قبل 9 سنوات من محافظة درعا، فيما بقيت جارتها السويداء مترددة حيث عمل وجهاء الطائفة الدرزية على تحييدها عن الصراع بموازاة امتناع شبانها المطلوبين للخدمة العسكرية عن الالتحاق بالجيش تجنباً لقتال الأكثرية السنية في المحافظات الأخرى، في ظل ضغوط النظام الذي احتفظ بمواقع نفوذ مهمة فيها، على أبنائها من أجل الانحياز إليه.
ومرت السويداء بظروف متقلبة كثيرة، فاغتيل عدد من رموز من انحازوا إلى الثوار فيها، أبرزهم الشيخ وحيد البلعوس مطلع سبتمبر (أيلول) 2015 الذي كان يتزعم مجموعة "شيوخ الكرامة" ضد نظام الأسد.
التحركات الشعبية الأخيرة، انطلقت من السويداء هذه المرة، ومن ثم انتقلت إلى درعا. فالمحافظتان كانتا تغليان منذ أكثر من سنتين وتشهدان فوضى سياسية وأمنية، ونشوء عصابات مسلحة بعضها على صلة بأجهزة الاستخبارات السورية، وبعضها الآخر تأسس على قاعدة تراجع فعالية الجيش وهيبة الأمن.
وكان أحد أسباب الفوضى أيضاً التنافس الثلاثي بين النظام وإيران ومعها "حزب الله"، وروسيا. فالمحافظتان هما الأقرب إلى محافظة القنيطرة الحدودية مع إسرائيل والتي سعت طهران إلى بناء نقاط ارتكاز فيها، فاشترطت حكومة بنيامين نتنياهو انسحاب القوات الإيرانية 50 كيلومتراً إلى ما وراء دمشق، عن حدود القنيطرة مع الأراضي السورية المحتلة. واللافت أيضاً أنه في وقت كان سكان مدينة مجدل شمس الدرزية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 والذين كانوا يميلون إلى التضامن مع نظام الأسد خلال الحرب الأهلية، أصدر بعض عائلاتهم مواقف متضامنة مع تظاهرات السويداء ضد النظام هذه المرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتقالات السويداء والأساليب ذاتها وبيان "الحراك السلمي"
راهن القادة الأمنيون على تنفيس الاحتقان الشعبي ضد تراجع الوضع الاجتماعي، عبر توجيه الأنظار نحو تحميل المسؤولية لحكومة الرئيس عماد خميس الذي عاد الأسد فأقاله في 11 يونيو (حزيران) الحالي، لكن ذلك لم يقنع المتظاهرين في السويداء وغيرها بعد تكليف حسين عرنوس بتولي رئاسة الحكومة، فتواصلت التظاهرات، على الرغم من تصريحات نواب في مجلس الشعب بأن هذا التغيير لاقى "ارتياحاً لدى المواطنين". وعلى العكس أعقب ذلك اعتقال الاستخبارات 10 من الناشطين في السويداء.
وحين راجع أهاليهم الأجهزة الأمنية في شأنهم مطالبين بإطلاقهم، اشترط بعض الضباط وقف التظاهرات ضد النظام، وانتظر الناشطون بضعة أيام، الإفراج عنهم حتى يوم الأحد 21 يونيو، ليكتشفوا صباح اليوم نفسه أنهم نقلوا إلى دمشق بحجة التحقيق معهم.
دفع ذلك الفعل، ناشطي التحركات الشعبية إلى إصدار بيان باسم "شباب الحراك السلمي"، أشار إلى "الجريمة القذرة التي ارتكبها النظام وشبيحته باعتقال خيرة رفاقنا الذين أقسمنا معهم قسم الأخوة".
وأضاف البيان "بمبادرة حسن النوايا انتظرنا خروج معتقلينا من دون أي تحرك في الشارع وبعد إقفال كل أبواب الحل السلمي أمامنا نناشد أهلنا في جبل العرب، جبل سلطان الأطرش، أن يقفوا وقفة عز وكرامة لنصرة أخوانهم الذين طالبوا بحقوقنا جميعاً.
وتضمن البيان ثماني نقاط أولها، "عودة الحراك السلمي الى الشارع وعدم التنازل عن المطالب وأهمها خروج المعتقلين وبشكل فوري".
وأكد أن "قوتنا بسلميتنا وأنتم ونحن نعلم مدى هذه القوة التي هزت عروشكم". واعتبر أن المتظاهرين دعاة سلم وسلام ومحبة وأصحاب حق وحقنا مضاعف لأننا نريد رفاقنا فوراً".
في المقابل، أفادت معلومات من سوريا بأن عدد الاعتقالات ارتفع.
تفجير درعا والغليان فيها والنقمة على إيران
تزامنت التطورات في السويداء خلال الأسبوعين الماضيين مع خروج تظاهرات الاحتجاج على الأزمة المعيشية الخانقة في محافظة درعا، وعلى الفلتان الأمني الذي كانت مدينة درعا وضواحيها تعيشه في الأشهر الماضية، وسط عبث مجموعات مسلحة موالية للنظام، خصوصاً للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، بأوضاعها وتنامي الخوات، وعمليات الخطف من أجل فدية.
في وقت واصل الإيرانيون و"حزب الله" التمدد في المنطقة، معتمدين على صرف مساعدات مالية في بعض الأوساط في ظل الضائقة المعيشية. وهذا التمدد كان موضع مراقبة وقلق من قبل الأردن الذي أشارت تقارير إلى أنه شكل مصدر قلق من هذا التمدد في منطقة قريبة من الحدود معه.
وأدت التطورات في درعا إلى اتفاق بين مجموعات "المصالحة" الذين كانوا أوقفوا القتال ضد النظام في عام 2017، مع العسكريين الروس الموجودين جنوب سوريا، على وعد بانسحاب الفرقة الرابعة من المنطقة، على أن تحل مكانها وحدات من الفيلق الخامس، وتشكيل مكتب للمصالحة مجدداً وأن يبذل العسكريون الروس جهودهم للإفراج عن موقوفين لدى أجهزة النظام، والتحقيق في تجاوزات ترتكبها فروع الاستخبارات.
وخرق الاحتقان في المحافظة تفجير وقع السبت 20 يونيو الحالي، على أحد الطرق المؤدية إلى درعا، استهدف باصاً يقل جنوداً من الفيلق الخامس الموالي للروس، فقتل نحو 15 جندياً منهم.
وأعقب ذلك حالة جديدة من الغليان في المحافظة في ظل إشاعات في الأوساط الشعبية عن أن التشكيلات الموالية لإيران تقف وراء هذا العمل، فيما اتهمت إشاعات أخرى أجهزة الاستخبارات السورية.
لكن هذه الإشاعات والاتهامات لقيت ترجمتها في اليوم التالي أثناء تشييع تسعة من قتلى الفيلق الخامس في مدينة بصرة الشام، بهتافات ضد النظام وإيران.
يسود اعتقاد وسط بعض الأوساط الدبلوماسية المراقبة للتطورات في بلاد الشام، أن الستاتيكو فيها مرشح لتعديلات تواكب ارتسام تحالفات ومستويات جديدة من الصراع في المنطقة، تزامناً مع حسابات دول وأفرقاء حيال تنامي العقوبات الأميركية على سوريا، وتصاعد الآثار السلبية للعقوبات على إيران بعد انخفاض العملة بنسبة 70 في المئة في طهران، وترقبها الانتخابات الرئاسية الأميركية لتقرر على أساسها الانفتاح على التفاوض مع واشنطن أم لا.
ويعتبر أكثر من مصدر أن الحكم في سوريا يتصرف بشيء من الذعر جراء تضافر تعقيدات العقوبات الاقتصادية، مع احتمالات التركيز من قبل إدارة الرئيس دونالد ترمب على الوضع فيها حالياً، أكثر من الالتفات إلى إيران، في محاولة منه لتحقيق انتصارات خارجية لتصحيح وضعه الانتخابي، بعدما تبين أن انعكاسات العقوبات على إيران لجلبها إلى حلبة التفاوض تحتاج إلى مزيد من الوقت كي تؤتي ثمارها بينما في سوريا قد تكون أسهل.