حين كتب خالد حسيني رائعته "عدَّاء الطائرة الورقية" The Kite Runner استخدم هذه الطائرة لترمز إلى شعور الصغير "أمير" بالذنب لأنه خان صديقه "حسن"، رفيق الركض بالطائرات الورقية. وعاقب الصغير نفسه بعدم إطلاق طائرة ورقية أخرى إلى أن عاد إليها مع "سهراب" في نهاية الرواية. وفي كل مرة تظهر فيها الطائرة الورقية، يكون ظهورها في رواية حسيني الكاتب الأميركي من أصل أفغاني ظهوراً ذا معنى ومغزى.
سماء مصر مزركشة
اليوم يقف المعنى واضحاً والمغزى بازغاً في كبد السماء حرفياً. سماء مصر مزركشة هذه الآونة بألوان لا حصر لها. أوراق وأقمشة، أخشاب وبلاستيك، ألوان هادئة وأخرى زاعقة، وخيوط طويلة تمتد من الأرض إلى عنان السماء.
وعلى الأرض يقف صغار وكبار، وبينهما حبل موصول غير مرئي، اسمه إحياء الماضي الذي ظن الجميع أنه ولى ودبر بفضل الفيروس اللعين ووبائه الرهيب. في حديقة عامة كبيرة في مدينة "الشروق"، الواقعة على أطراف القاهرة، يقف عشرات الأشخاص وقت غروب الشمس ويتناوب كل اثنين أو ثلاثة منهم على تطيير طائرة ورقية والتحكم فيها. السمة المميزة للأشخاص هي تراوح الأعمار الشديد. أطفال، ومراهقون، وشباب، وكبار من 35 إلى 70 عاماً. يتوقف أحد العابرين بسيارته ويسأل "ما الذي أعاد الطائرات الورقية؟"، يرد أحدهم "إنه كورونا يا صديقي".
كورونا يغدق على البشرية
جائحة فيروس كورونا التي ما زالت تغدق على البشرية باكتشافات لما خفي عنها من قيم عانت الاضمحلال مثل الأسرة والتواصل الإنساني، وإمكانات لم تحظ بالاهتمام الكافي مثل العمل والتعلم من البيت، وفرص عملٍ اعتبرها البعض هامشية أو اختيارية مثل التسوق "أونلاين" وتوصيل الطلبات إلى المنازل، أعادت في الأسابيع القليلة الماضية إحياء رياضة وفن وهواية ظن الجميع أنها صارت حكراً على كتب التاريخ وذكريات الأجداد.
الجد حسين فتحي، 76 عاماً، جلس على مقعد خشبي صغير في حديقة عامة كبيرة، وإلى جواره ابنه حازم، 42 عاماً، وابنه عبد الرحمن، 14 عاماً، وابنته جنة، 12 عاماً. الجد يعطي توجيهات خاصة باتجاه الرياح، إذ يجب أن يتم إطلاق الطائرة الورقية عكس اتجاه الرياح. الابن يتبع التعليمات بحذافيرها مذكراً الأب بالأيام الخوالي على شاطئ "المعمورة" في الإسكندرية وقت كانت الأسرة تقضي إجازة المصيف والأب يصطحب الأبناء والبنات يومياً بعد انتهاء وقت الاستحمام واللعب على البحر لتطيير الطائرات الورقية. والأب يبتسم ويضيف المزيد من التفاصيل عن الزمن الجميل وذكرياته. أما الابن والابنة فيبديان أمارات الملل كلما تطلب تطيير الطائرة حنكة علمية للتيقن من اتجاه الرياح وعلامات الإثارة والسعادة حين ترتفع طائرتهما أكثر من أقرانهم الموجودين في الحديقة للغرض نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحديقة العامة تغيرت صفتها منذ تأكد تحوُّل كورونا من فيروس مستجد سيقضي بعض المهام ثم يمضي إلى حال سبيله إلى وباء قرّر البقاء مع البشرية لأجل غير مسمى. وبدلاً عن كونها قطعة أرض مزروعة تسر أعين المارة والسكان، أصبحت مقراً معروفاً في هذا المربع السكني تلتقي فيه أعداد متزايدة ممن قرروا إحياء الطائرات الورقية بعد عقود من الاندثار.
اندثرت لتعود بقوة
"اندثرت لكنها عادت بقوة"، هكذا يقول عبد الوهاب محمد، واحدٌ ممن أعادوا الطائرات الورقية إلى الحياة، ومعه ولداه مروان ومازن، 11 عاماً. يقول إن الظروف الحالية يصب جميعها في مصلحة الطائرات الورقية كوسيلة ترفيه للصغار والكبار أيضاً. يقول "تطيير هذه الطائرات يحتاج إلى مساحات واسعة غير مكدسة بالناس، وهو ما يحقق مبدأ التباعد الاجتماعي المطلوب للوقاية من كورونا، كما أنه يتم تطييرها في وقت تكون أشعة الشمس مفيدة للجسم ما يحقق فائدة صحية أيضاً".
وعن فائدة إبعاد الصغار ولو موقتاً عن شاشات الكمبيوتر والـ"بلاي ستيشن" والـ"آي باد" وغيرها، يقول "أحب مروان ومازن الفكرة في البداية لأنها جديدة بالنسبة إليهما، لكنهما أكثر تعلقاً بـ(البلاي ستيشن)، ورغم ذلك تظل الطائرة الورقية ملاذاً لهما في حال عدم توافر الشاشات الإلكترونية".
إلا أن الشاشات الإلكتروينة التي يبدو للوهلة الأولى أنها تقف على طرف النقيض من ألعاب وهوايات الماضي فرضت نفسها بقوة في زمن عودة الطائرات الورقية.
"غوغل" ووصفة الطائرة
الباحثون والباحثات عن أسس وقواعد الطائرات الورقية يمطرون رأس "غوغل" أسئلة واستفسارات، بدءاً بكيفية الحصول على الطائرة، مروراً بكيفية تطييرها، وانتهاء بصناعتها في البيت. يقول محمد إن الطبيعي في أزمنة مضت هو أن الطائرات الورقية تصنع في البيوت. "جريد النخل، بوص، أخشاب خفيفة، أوراق بلاستيك، صمغ وخيوط. هذه هي المواد الرئيسة. لم تكن هناك طائرات تُصنع وتُباع إلا فيما ندر".
ندرة شراء الطائرات
النادر في عقود مضت أن تكون طائرة أحدهم الورقية مشتراة! الطبيعي هو أن يجتمع الأولاد لصنعها. وكان كل منهم يتفنن في تلوينها يدوياً أو الاستعانة بمواد ملونة. كما كانت تتعدد الأشكال، والغريب أن الأشكال المختلفة كانت تخدم أغراضاً مختلفة من حيث اتجاه الطيران وارتفاعه، فالطائرة المسطحة ذات الذيول التي تمنحها قوة الطيران تختلف عن المنحنية حيث القدرة الفائقة على الاحتفاظ بزاويتها رغم الرياح، وهي بدورها تختلف عن الطائرة الصندوقية التي تتطلب قوة رياح شديدة، وفي حال تمت الاستعانة بأكثر من طائرة صندوقية متشابكة يمكنها رفع إنسان من على سطح الأرض، وتختلف أيضاً عن الطائرة المثلثة أبسط أنواع الطائرات.
الطائرات الورقية العائدة بقوة تذكّر بالقوة نفسها بأزمنة مضت، إذ كانت الطائرة الورقية ترتبط في الأذهان بالإجازة الصيفية والمصيف. تقول منال السيد، 62 عاماً، إنه على الرغم من أن الطائرات الورقية كانت لعبة أو هواية مرتبطة بالذكور أكثر من الإناث، فإنها كانت تعشقها شكلاً وموضوعاً. تواصل "كنت أصمم أشكالاً رائعة من الطائرات ذات ألوان لم تكن شائعة، وكان شقيقاي ينفذان التصميم، وأحياناً كان يُسمح لي بالوقوف معهما على سطح البيت لإطلاق الطائرة، وذلك في حال لم يكن أبناء الجيران موجودين". تضحك وتتابع "اليوم وبفضل كورونا عدتُ إلى هوايتي الرائعة وصممت وصنعت العديد من الطائرات التي تقوم حفيدتي المراهقة وصديقاتها وأصدقاؤها بتطييرها في الساحل الشمالي للقضاء على ملل الحظر الذي فرضه الوباء". وتضيف بفخر "أصدقاء حفيدتي يخبرونها أن طائراتي الورقية أفضل وأقوى من تلك التي يتم بيعها حالياً بمئات الجنيهات".
قيود الحظر وقواعد العزل
يُشار إلى أن كورونا وقيود الحظر وقواعد العزل والتباعد والبقاء في البيت أدت إلى انتعاش تجارة الطائرات الورقية بشكل غير مسبوق. مواقع التسوق الإلكتروني حافلة بكم مذهل من الطائرات الورقية للبيع والتوصيل إلى باب البيت. الأسعار تتفاوت بين 75 جنيهاً مصرياً (نحو 5 دولارات أميركية) و450 جنيهاً (نحو 28 دولاراً)، وذلك بحسب الحجم والخامات.
وعلى قوارع الطرقات يقف عشرات الباعة ممن يبيعون هذه الطائرات القابلة أسعارها للتفاوض. يقول أحمد، 20 عاماً، الذي يبيع هذه الطائرات في مدينة "الشروق" إن الطائرات الورقية تلقى رواجاً كبيراً بسبب كورونا، وأيضاً بعد ما انتهى العام الدراسي ووجد الطلاب أنفسهم "قاعدين وشهم في وش الحيطة"، (في إشارة إلى التزامهم المنازل نتيجة الحظر). يقول أحمد، وهو طالب في معهد تجاري، إنه كان يبيع غزل البنات حتى وقت قريب، لكن كثيرين أصبحوا يتخوفون من شراء المأكولات خوفاً من الفيروسات، فتحوّل إلى بيع الطائرات الورقية التي انتعشت كثيراً.
حوادث الطائرات
لكن انتعاش الطائرات الورقية تسبب أيضاً في وقوع عددٍ من الحوادث المؤسفة في الأيام القليلة الماضية بسبب عدم الالتفات إلى قواعد الأمن والسلامة. ترك الأطفال في الشرفات مع الطائرات الورقية من دون رقابة أسفر عن سقوط طفل في العاشرة من الطابق الخامس في قرية أوسيم بمحافظة الجيزة وتوفي على الفور. قبلها بأيام اختل توازن شاب في حي العمرانية بالمحافظة ذاتها بينما كان يطيّر طائرته الورقية من على سطح البيت وتوفي أيضاً في الحال. وفي طنطا (شمالي القاهرة) لقي طفل مصيره بالطريقة نفسها، وتتزايد هذه الحوادث يوماً بعد يوم في ظل استمرار الحظر وقيود البقاء في البيت.
ارتفاعات وكهرباء
وبالإضافة إلى السقوط من على ارتفاعات، فإن الطائرات الورقية التي يتم تطييرها من دون الالتفات إلى قواعد السلامة والأمان فيما يتعلق بأسلاك وأعمدة الكهرباء تتسبب في حوادث قاتلة أيضاً. وقد وقع عدد من الحوادث في الأسابيع القليلة الماضية بسبب تشابك خيوط الطائرات الورقية مع أسلاك وأعمدة الإنارة، وهو ما ينتج عنه قطع الكهرباء عن أحياء بأكلمها، بالإضافة إلى الخطر الأكبر ألا وهو صعود الأطفال والشباب ممن علقت طائراتهم لتخليصها وتعرضهم للصعق بالكهرباء.
وقد وجه عدد من المسؤولين في وزارة الكهرباء نداءات عدة إلى المواطنين لتوخي الحذر في هذا الصدد، وعدم ترك الأبناء يمارسون هذه اللعبة من دون التأكد من قواعد السلامة، وأهمها تجنب الارتفاعات وأسلاك وأعمدة الإنارة.
الشاشات الإلكترونية
هذه النوعية من الحوادث انخفض وقوعها بشكل كبير في العقدين الماضيين، وذلك بعد ما حلت الألعاب الحديثة والشاشات الإلكترونية لتشغل وقت فراغ الأطفال والمراهقين والشباب. لكن يشار أيضاً إلى أن الطائرات الورقية التي تعود اليوم بقوة لتزين سماء مصر على اختلاف أحيائها ودرجاتها الاجتماعية لم تختف يوماً من المناطق الشعبية والقرى والنجوع، حيث لا تزال تشكل جانباً لا بأس به من ترفيه الأطفال والمراهقين، ولكن بأشكالها البسيطة غير الفاخرة، وذلك على الرغم من وصول الفتح العنكبوتي والشاشات الإلكترونية أكثر النجوع فقراً.
نوستالجيا الماضي
النجوع الفقيرة والمنتجعات الفارهة على حد سواء استعادت ضمن هوجة الوقوع في نوستالجيا الماضي بفضل الوباء بعضاً من لياقتها الإنسانية التي أضعفتها ثورة تقنية المعلومات وزحمة الصراع من أجل لقمة العيش وانشغال الجميع عن الجميع بتفاصيل الحياة اليومية. صحيح أن طائرات النجوع تقف على طرف النقيض من طائرات المنتجعات، حيث بساطة الأولى وابتعادها عن التعقيد والإمعان في إظهار ارتفاع الكلفة وتفرد التصميم، إلا أن جميعها يبقى "طيّارة ورق".
اللافت أيضاً أن صوت المطرب علاء عبد الخالق هو الآخر لا يعترف بالفروق بين النجوع والمنتجعات، وبعد مرور ما يزيد على عقدين من صدور أغنيته "طيّارة ورق"، يعود صوته فيصدح عبر الهواتف المحمولة وسماعاتها المكبرة الملقاة إلى جوار عدائي الطائرات الورقية بأغنيته "قلبي طيّارة ورق، قلبك طيّرها لفوق".